الأمر باتخاذ السترة في الصلاة لم تفرق بين المسجد الحرام ومسجد آخر
إن النصوص الواردة بالأمر باتخاذ السترة في الصلاة لم تفرق بين المسجد الحرام ومسجد آخر،
وتحريم المرور بين يدي المصلي أدلة عامة لا مخصص لها، بل قد ورد في اتخاذ السترة بمكة عموماً وفي المسجد الحرام خصوصاً لأدلة صريحة تؤيد ذلك.
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله بابا فقال: "باب السترة بمكة وغيرها"،ثم أورد حديثا بإسناده عن أبي حجيفة رضي الله عنه أنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين ونصب بين يديه عنزة وتوضأ فجعل الناس يتمسحون بوضوئه.
وعن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: }واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى{ فجعل المقام بينه وبين البيت. فذكر صلاته ركعتين.
وعن يحيى بن أبي كثير رحمه الله قال: رأيت أنس بن مالك ب في المسجد الحرام قد نصب عصا يصلي إليها. أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"( 2853). وصححه الألباني في "حجة الرسول"(ص : 20) وفي "الضعيفة" (2/328)
وعن صالح بن كيسان رحمه الله قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، ولا يدع أحدا يمر بين يديه. أخرجه البخاري معلقاً مختصراً، وانظر "الفتح" (1/581)، و"تغليق التعليق" (2/247)، رواه أبو زرعة الرازي في ( تاريخ دمشق ) وكذا ابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) ( 8/106/2 ) بسند صحيح .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :لا فرق في ذلك بين المسجد -أي المسجد الحرام- وغيره على القول الراجح؛ لأن النصوص عامة، وليس فيها تخصيص بقعة دون أخرى، ولهذا ترجم البخاري على هذه المسألة بقوله: "باب السترة بمكة وغيرها" واستدل بالعموم.
وقال رحمه الله : وقد ظن بعض الناس أن قول ابن عباس: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى غير جدار". أن الحرم أي ما كان داخل الأميال لا تشرع فيه السترة، وقالوا: "إن قوله: "إلى غير جدار" يدل على أن الحرم لا تتخذ فيه السترة يعني ما كان داخل الأميال. ولكن من تأمل الحديث وجد أنه يدل على خلاف ذلك؛ لأن قول ابن عباس: "إلى غير جدار"، غير صفة ولا تقع غير إلا صفة لموصوف، فعليه يكون تقدير الكلام إلى شيء غير جدار، والمعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي فتركز له العنزه كما في حديث أبي جحيفة وهو ثابت في الصحيحين أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسح منه، ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه، ثم رأيت بلالاً أخذ عنزة وركزها، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء مشمراً صلى بالناس ركعتين، ورأيت الناس يمرون بين يدي العنزة". وهذا نص صريح في أن السترة تتخذ حتى فيما كان داخل الأميال؛ لأن الأبطح أقرب إلى الكعبة من منى، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتخذ فيه السترة.
وقال رحمه الله : يأثم الإنسان إذا مر بين يدي المصلي مطلقاً في مكة وفي غيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا من أن يمر بين يديه". وأمر المصلي أن يدفعه إذا أراد المرور بين يديه، وهذا عام يشمل مكة وغيرها. " مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (13/322)
وأما ما ورد عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله طاف بالبيت سبعا، ثم صلى ركعتين بحذائه في حاشية المقام، وليس بينه وبين الطوّاف أحد.
وفي رواية: "وليس بينه وبين الطواف سترة"،فهذا قد استدل به من قال: لا سترة في المسجد الحرام. ولكن هذا الاستدلال غير ناهض؛ لوجوه منها:
الأول: أن الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده،ففي إسناده مجهول وهو الواسطة بين كثير وجده وفيه علة أخرى، وهي الاختلاف في إسناده
الثاني : أن الثابت في حديث جابر ط وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد فراغه من الطواف خلف المقام، فيكون المقام سترة له. قال جابر رضي الله عنهما : وطاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت . ." ولهذا قال السندي : على حديث المطلب: قلت: لكن المقام يكفي سترة، وعلى هذا فلا يصلح هذا الحديث دليلاً لمن يقول: لا حاجة في مكة إلى سترة، فليتأمل.
الثالث : أنه معارض بما هو أقوى منه، وهو ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم اتخاذ السترة سفرا وحضرا الثابت في الأحاديث الصحيحة. وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالسترة أمرا صريحا مطلقا وقد سبق ذكرها .
قال ابن حجررحمه الله : فأراد البخاري التنبيه على ضعف الحديث -أي حديث المطلب- وأنه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة"و قال: وهذا هو المعروف عند الشافعية وأنه لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها. "الفتح" (1/576).
وقال شيخنا محمد علي آدم الأثيوبي ـ حفظه الله ـ:الراجح في هذه المسألة وجوب اتخاذ السترة ومنع المرور بين يدي المصلي مطلقا في مكة وغيرها لعموم الأدلة ،والحديث الذي استدلوا به على الجواز ضعيف كما سمعت"أي حديث المطلب بن أبي وداعة" ،فلا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحيحة الموجبة لذلك.
"ذخيرة العقبى في شرح المجتبى"(9/233)
وأما المرور بين يدي المصلي لشدة زحام ونحو ذلك فجائز لأن ذلك ضرورة والضرورة تقدّر بقدرها.والله أعلم .