تنبيهات مهمة على رسالة "منحة العلام بشرح نواقض الإسلام"... الحلقة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
وقفت على رسالة لأحد طلبة العلم مُعنونة بـــــــ "منحة العلام بشرح نواقض الإسلام"،وقد انتشرت وذاعت وحفظها بعض طلبته ،فتصفحتها ورأيت فيها من الخلط وسيّء القول وشنيعه الشيء العجيب، فمن ذلك أنه صحّح القول بأن الشفاعة من الأموات والصالحين ليس شركا أكبر وإنما هي بدعة من البدع التي لا يخرج صاحبها من الإسلام ونسب ذلك إلى شيخ الإسلام وعبد الرحمن بن حسن وغيرهما.
ويقرّر فيها عقيدة الخوارج بأنه من يضع القوانين لنفسه أو يتبنى قوانين وضعت ممن كان قبله مع اعتقاده وجوب الحكم بما أنزل الله وأن غيره لا يساويه ولا يفضله يقول في تكفيره خلاف -أي:بين أهل السنة- ،و يحكم على أكثر الناس بأنهم متلبّسون بنواقض الإسلام ومتلطّخون بأدران الكفر ونحو ذلك من الأغلوطات والتخبّطات التي سنبينها بمشيئة الله تعالى -في غير هذه الحلقة-.
فامتثالا لقول نبينا صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة ..." الحديث ،ولما ثبت من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال :"بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم". ونحو ذلك من الأدلة، أحببت أن أبين بعض المخالفات الشرعية التي سوّدها صاحب تلك الرسالة المشار إليها آنفا.
وقد يقول قائل : لماذا لم تنصحه ؟؟
فالجواب عليه لما يلي :
أولا : الأصل الذي عليه أهل السنة أنه إذا انتشر الخطأ بين الناس وكان مسموعا أو مقروء لا تشترط حينئذ مناصحة من أخطأ لأن السر بالسر والعلانية بالعلانية فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: "أن رجلا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال :من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله".
وجه الشاهد من هذا الحديث النبوي أنه بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يمسك به على جنب ويبين له وجه المخالفة ،لكن لما كان المقام مقام بيان وإيضاح وتكلم بكلام مجمل فيه إيهام وجب البيان والردّ علنا.
فلما انتشرت تلك الرسالة وفيها ما فيها من المسائل المخالفة لشريعة ربّ العالمين وجب حينئد رد الباطل التي فيها لكي يُحذر ويُجتنب لا غير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : المعصية إذا كانت ظاهرة كانت عقوبتها ظاهرة ؛ كما جاء في الأثر : " من أذنب سرا فليتب سرا ومن أذنب علانية فليتب علانية " وليس من الستر الذي يحبه الله تعالى - كما في الحديث : { من ستر مسلما ستره الله } بل ذلك إذا ستر كان ذلك إقرارا لمنكر ظاهر : وفي الحديث { إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها وإذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة }1 فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن.2
وسئل الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله مانصه :هل النصيحة واجبة لمن انتشر خطئه قبل الكلام عليه والرد على أخطائه وأنه لا يُرَّد على خطئه حتى يُنصح ؟ .
فأجاب بقوله :
إذا انتشر خطئه فلا علاج له إلا أن يُعالج علانية ، إذا أعلن خطئه فأنت لابد أن تبيّن للناس الحق ، لأن الناس سيقعون في حبائل الشيطان وسيركضون وراء هذا الخطر لا سيما إذا كان من العالم ، فبيّن بالحجّة والبرهان خطئه ، بشرط أن يكون قصدك وجه الله وقصدك النصيحة لا التشهير واطلب منه التراجع.اهـ
وقال شيخنا محمد بن هادي حفظه الله : مَن أَظهرَ خَطَئهُ بينِ المَلأ فِي كِتابٍ مَكتوب، أَو فِي شَريطٍ مَسموعٍ أَو مَرئيٍ هذا لا تَجبُ لَهُ المُناصَحَة سِرَّاً ؛ بَلْ يَجِب رَدَّ البَاطِل والخَطأ حتَّى لا يَقَع النَّاسُ فيه ؛ ثُمَّ بعد ذلك يُناصَحْ ، فَهذا هُو الصَّحيح، يُبين للنَّاس ويُحرصُ عَلَى مَصْلَحة الْجَماعَة قَبل مَصلحةِ الْفَرد.
فإذا نُوصِحَ فيما بَعد ورَجَع كان بها، وإِنْ لَمْ يَرجِع _فَلا حَوْلَ وَلا قُوة َإِلا بِالله_ ؛ هذا هُو الْواجِب ، ولكِن مَعَ هذا نَزلنا عَلَى الرَّأي الآخر. . .)
وقال _حفظه الله_: (الشَّيْخ مُحمَّد أَمان _رَحِمَهُ الله_ مَا سَلَكَ الَّذي سَلَكْناهُ لأَنَّهُ ماشي عَلَى القاعدة: (أَنَّ مَنْ اشْتَهَر خَطَئهُ مَسْموعاً أَو مَقْروءاً أَو مَرئياً يرَدُّ عَليهِ ولا يُكْتَبُ إِليهِ سِرَّاً لأَن الأَمْرَ شَاعَ بَيْنَ النَّاسْ).اهـ
وقال الشيخ أحمد بازمول حفظه الله : إذا كان خطؤه قد انتشر بين الناس فإنه يرد علانية وإن أمكنه أن يناصحه سراً فله ذلك
أما القول بأنه يجب أن يناصحه سراً قبل أن يناصحه علانية فهذا القول خلاف منهج السلف فإننا لو نظرنا إلى منهج السلف حين يبلغهم خطأ من أخطأ فإنهم مباشرة ينكرون الخطأ ويردونه ولا يقولون ننتظر حتى ننصحه سرا أو يقولوا هل نصحتموه قبل أن تسألوا لم يرد عن السلف مثل هذا إنما الوارد عنهم جزاهم الله خيرا وفعلهم الحق أنهم ينكرون الخطأ مباشرة والله أعلم .اهـ
ثانيا : "منحة العلام بشرح نواقض الإسلام" قد شرحها وانتشرت بل كان يشترط لطلابه حفظها ويختبر فيها ويشترط عدم وضع الورقة فارغة.
فلذلك استشرت أهل العلم في أن نقف بعض الوقفات في بيان الانحراف التي جاء في هذه الرسالة فشجعوني على ذلك ووالله الذي لا إله إلا هو إني ما أريد إلا ردّ الباطل وإحقاق الحق لا غير.
قال هداه الله في "منحة العلام بشرح نواقض الإسلام"(ص :19) طلب الشفاعة من الأولياء والأموات عند الله :فيه خلاف :
الرأي الأول :ذهب بعض العلماء إلى أنه شرك أكبر لأن الأصل في الأموات أنهم لايسمعون نداء من ناداهم ولايستجبون لمن دعاهم قال تعالى : (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر:14:13) .
الرأي الثاني :أن هذا ليس بشرك وإنما هو من قبيل البدع وهذا رأي ابن تيمية وهو الصحيح لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر ولأنه لايتضمن صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله وإنماهو مجرد سؤالهم أن يشفعوا لهم عند الله ، وهذا اختيار عبد الرحمن بن حسن وعبد اللطيف بن عبد الرحمن.
وقال هداه الله في "منحة العلام بشرح نواقض الإسلام"(ص :16 ) معرّفا الشرك الأصغر بقوله :
"الأول : شرك أكبر : ويكون فيما يختص بالله ولا يقدر عليه إلا الله كمن يدعو فيقول : ياسيدي فلان ارزقني ولدا.
الثاني : شرك أصغر : أن يدعو غير الله في أمر لا يقدر عليه ذات المدعو من باب ظن الشيء سببا وليس سببا".اهـ
أحببت أن نقف بعض الوقفات على بعض كلامه الذي جانب فيه الصواب :
أولا :
ـ اتق الله يا عبد الله أنت تقرّر أن الشفاعة من الأموات ليس شركا أكبر كيف ومتى وأين اختلف أهل العلم في مسألة طلب الشفاعة من الأموات المقبورين ؟؟
الشفاعة حق لله وحده، وإنما تطلب منه وحده لا شريك له لا تطلب من نبي مرسل ولا ملك مقرّب فضلا عن غيرهما لأنه لا يملكها غير الله جل وعز ، ومن طلبها من الأموات والأولياء فهذا هو عين الشرك بالله تعالى الذي لا يغفر لصاحبه .
ومن المقرر شرعا أن المشركين قديما وحديثا يعبدون من دون الله الأصنام والأشجار والأحجار والقبور والأضرحة والأولياء والصالحين والملائكة والأنبياء ونحو ذلك لتُقرّبهم إلى الله زلفى، وكانوا فى الوقت ذاته يطلبون الشفاعة منهم لتوهّمهم أنهم أصحاب كلمة مسموعة عند الله فإذا أنكر عليهم ذلك قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله: كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السّموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون}. [يونس: 18].
الشاهد من هذه الآية العظيمة : لو كانت طلب الشفاعة من الأموات لا يكفر فاعلها فلماذا الله تبارك وتعالى لم يقبل حجتهم وعذرهم بل كانت النتيجة من جرّاء طلبهم الشفاعة ممن لا يملكها أن كفّرهم من فوق سبع سموات.
و قال تعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون , قل لله الشفاعة جميعا} [الزمر- 43] .
هذه الآية والتي قبلها تبين أنهم اعترفوا أنهم يعبدونهم وبين أن فعلهم هذا كذبا، وسماه كفرا وحكم عليهم بالكفر.
فهم ما عبدوا ولا تقربوا للأموات من الذبح والنذر والإستغاثة إلا للقربى، ولا عملوا هذه الأشياء الكفرية من العبادات إلا لأجل أن تشفع لهم إلى ربهم ، فإذن من طلب الشفاعة من الميت معناه أنه دعاه لأن الشفاعة هي طلب الدعاء؛ -ضم الشافع طلبه إلى المشفوع له-، فقول القائل لأحد: أسألك أن تدعو لي. يعني أن تشفع لي،وذلك لا يكون إلا لله ومن صرفه لغيره من الأموات فقد مرق من الإسلام فتنبّه.
وقال تعالى: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون} [الزخرف/86]
وقال تعالى: {والّذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبّئك مثل خبير} [فاطر:13/14]
وقال تعالى: {قل ادعوا الّذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرّة في السّموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشّفاعة عنده إلا لمن أذن له} [ سبأ : 22 ، 23 ]
في هذه الآيات العظيمة تحرم طلب الشفاعة من الأموات والمقبورين وتقطع عروق شجرة الشرك لمن عقلها وتدبرها و فيها أن طلب الشّفاعة من الأموات طلب ممن لا يملكها ولم يأذن جل وعز أن تكون شرعية.
ثانيا :
الذي يطلب الشفاعة من الأموات يكفر كفرا أكبر من ناحيتين :
1 ـ أنهم شبهوا الله جل وعلا بخلقه، وذلك أنهم اتخذوا عند الله الشفعاء كما يتخذونهم عند الملوك والرؤساء وهذا من أبطل الباطل لأن الملوك والسلاطين يقبلون الشفاعة وذلك لحاجتهم إلى ذلك فلو لم يقبلوا الشفاعة لنفر منهم الذين تشفعوا ، وربما قبلوا شفاعة الشافع لخوفه من الذي شفع ، ولربما قبلوا الشفاعة لجزاء إحسانهم إليه.
ولأنهم عاجزون عن تدبير رعيتهم فلا بد لهم من أعوان يشفعون وذلك لذُلِّهِم وعجزهم.
كذلك لو لم يشفع الشافع لم يعلم السلاطين أحوال الرعية وما يحتاجونه.
أما الله سبحانة وتعالى فهو منزّه عن ذلك كلّه ،فهو غني عن خلقه أجمعين فكل الخلق لا يستغني عن الله ومحتاج ومفتقر إليه ، والله غني عن كلّ ما سواه.
2 ـ أن فيه صرف عبادة لغير الله تعالى كما سنبينه.
ثالثا :
من المقرر كذلك أن المشركين يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق المحيي والمميت و.. ، وإنما كان شركهم في اتخاذ الوسائط بينهم وبين الله كطلب الشفاعة من المقبورين الذي لا ترى فاعله يخرج من الملّة وتنسبه إلى شيخ الإسلام وبعض علماء أئمة الدعوة كذبا وزورا كما سنبين ذلك.
قال شيخنا صالح الفوزان حفظه الله : ليس من لازم إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم وغيره الشفاعة جواز طلبها منهم وهم أموات بدليل أن الله سبحانه وتعالى نفي أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه ولأن طلب الشفاعة من الأموات شرك والله قد حرم الشرك وأحبط عمل صاحبه وحرم عليه الجنة، وقد أنكر سبحانه على الذين يدعون غيره ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ونزّه نفسه عن ذلك وسماه شركًا. وأيضًا إعطاء الله الشفاعة ليس خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهل كل من أعطي الشفاعة تطلب منه من دون الله كما كان المشركون الأولون يفعلون ذلك، { يَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }.
وقال حفظه الله : فطلبه –أي:الدعاء-من غير الله شرك أكبر، وكذلك طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، هذا من الشرك الأكبر؛ لأن المشركين الأولين كانوا يعبدون الأولياء، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فالله سبحانه وتعالى عاب ذلك عليهم، ونهاهُم عن ذلك !
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 . (17) ] ، { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : (18)] .
وكل هذا من الشرك الأكبر والذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى منه، والتزام التوحيد وعقيدة الإسلام؛ فهو دعاء شركي، لا يجوز للمسلم أن يتلفظ به، ولا أن يدعو به، ولا أن يستعمله، ويجب على المسلم أن ينهى عنه، وأن يحذر منه .3
رابعا :
للشفاعة شروط ثلاثة فلا تتحقق إلا بها:
رضا الله عن الشافع .
رضا الله عن المشفوع له .
إذن الله تعالى للشافع أن يشفع .
وهذه الشروط مجملة في قوله تعالى : (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) .
وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة:255]
وقال تعالى :{ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء:28]ونحو ذلك من الأدلة الدالة على ذلك.
الشاهد وهو بيت القصيد كما يقال :
هل توفرت شروط الشفاعة في طلبها من الأموات حتى تقرّر بأنه من فعل ذلك لا يخرج من الإسلام ،وتنسبه إلى أئمة الإسلام فالله الله أن يُأتى الإسلام من قِبِلك.
قال العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله : التي نهى عنها الشرع فهو طلب الشفاعة من المخلوق الذي ليس بحي –أي :ميت- أو هو غائب فإنه شرك بالله ?.
لماذا؟
لأنه طلب؛ لأنَّ حقيقة الشفاعة دعاء وطلب، فإذا سأل غيره الشفاعة، فهو سأل وطلب من المسؤول أن يسأل.
فإذاً حقيقة طلب الشفاعة أنها دعاء، ولذلك من طلب من الميت أن يدعو له، فإنه يدخل في عموم نصوص الدّعاء؛ لأنّ الطّلب دعاء.
ولهذا نقول: كل طلبِ شفاعة من الأموات أو الغائبين ممن لا يملكها أو لا يستطيعها أو لم يُؤذن له فيها شرعا في حياة البرزخ فإنّ هذه من الشرك بالله ?.
لكنّ الشُّبْهَة في الشفاعة كبيرة وتحتاج إلى إقامة الحجة على المخالف أكثر من غيرها من مسائل العقيدة.
المشركون لم يكونوا يطلبون من آلهتهم الدّعاء، لم يكونوا يطلبون من أوثانهم لتشفع ولكن كانوا يتقربون إليها لتشفع.
فإذن صورة طلب الشفاعة من الميّت محدثة.
ولهذا يُعَبِّر كثير من أهل العلم عن طلب الشفاعة من الأموات بأنها بدعة محدثة؛ لأنّها لم تكن فيما قبل الزمان الذي أُحدثت فيه تلك المحدثات في هذه الأمة.
فإذاً تعبير بعض أهل العلم عنها بأنها بدعة، لا يعني أنها ليست بشرك؛ لأنَّ البِدَعَ منها ما هو كفري شركي ومنها ما هو دون ذلك.
وقال حفظه الله : الشفاعة لله وطلب الشفاعة من الموتى شرك؛ لأن الله جل وعلا لم يأذن بهذا والله هو الذي يملك الشفاعة، هذا لا يملكها، ومن طلب من الميت ما لا يملكه ولا يقدر عليه ابتداء فقد طلب منه، ما هو مختص بالله وهذا يعني أنه أشرك به.
وقال حفظه الله : والشفاعة هي : الدعاء . وطلب الشفاعة هو : طلب الدعاء ، فإذا قال قائل : أستشفع برسول الله ، فكأنه قال : أطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لي عند الله . فالشفاعة طلب ؛ فمن استشفع فقد طلب الشفاعة ، والخلاصة : أن الشفاعة دعاء ، وهي : طلب الدعاء أيضا ، وقد سبق أن قررنا أن كل دليل ورد في الشرع على إبطال أن يدعي مع الله - جل وعلا - إله آخر ، فإنه يصلح أن يكون دليلا على إبطال الاستشفاع بالموتى الذين غابوا عن دار التكليف ؛ لأن حقيقة الشافع - كما تقدم آنفا - أنه طالب ولأن حقيقة المستشفع أنه طالب أيضا ، فالشافع في ظن المستشفع يدعو ، والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة ، يعني : إذا أتى آت إلى قبر نبي ، أو قبر ولي أو نحو ذلك ، فقال : أستشفع بك ، أو أسأل الشفاعة ، فمعناه أنه طالب منه ، ودعا أن يدعو له ؛ فلهذا كان صرفها ، أو التوجه بها إلى غير الله - جل وعلا - شركا أكبر ؛ لأنها في الحقيقة دعوة لغير الله ، وسؤال من هذا الميت ، وتوجه بالطلب والدعاء منه . فإذا عرفت معنى الشفاعة ، وحكم طلبها من الأموات ، وأن ذلك شرك أكبر.
خامسا :
سننقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وعبد الرحمن بن حسن وعبد اللطيف بن عبد الرحمن الذين اتهمهم بأنهم يقولوا بأن طلب الشفاعة من الأموات ليس شركا أكبر :
أولا : بيان أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول بأن طلب الشفاعة من الأموات شرك أكبر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (1/126): وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه - كالحجاب الذين بين الملك ورعيته - بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج . فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك
يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهؤلاء مشبهون لله شبهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً " .
ويقول رحمه الله أيضاً كما في "مجموع الفتاوى" (1/134، 135 : ( من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك بل هذا دين المشركين عباد الأوثان كانوا يقولون : إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى. اهـ
وقال رحمه الله أيضاً في (27/72: (وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك
ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا) : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (الزمر آية 3. اهـ
وقال أيضا كما"الجواب الصحيح" (5 / 187): وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا مثل دعائهم مريم وغيرها وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله لم يبعث به أحد من الأنبياء " اهـ
ثانيا : بيان أن العلامة عبد الرحمن بن حسن رحمه الله يقول بأن طلب الشفاعة من الأموات شرك أكبر:
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن رحمه الله :بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات؛ فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر.5
ثالثا : بيان أن العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله يقول بأن طلب الشفاعة من الأموات شرك أكبر: .
نقل الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في كتاب "الرد على البكري" أثناء كلامه عن دعاء المقبورين6 مانصه:
وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا: أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أنه يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع، كما كان يسأل ويشفع، لما سأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة.
ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب، غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، إلى سؤال غيره، وطلب الدعاء منه ; وأن الرسول صلى الله عليه و سلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته.
قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله معلقا بقوله :فانظر رحمك الله إلى ما ذكره هذا الإمام من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، ممن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ رحمه الله على ذلك، وبين لهم أن هذا من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، تنبه من تنبه منهم، وتاب إلى الله، وعرف أن ما كان عليه شرك وضلال، وانقاد للحق.8
وقال رحمه الله : وسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي. ولو قال: يا ولي الله اشفع لي فإن نفس السؤال محرم. وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى: يا والدة الله اشفعي لنا إلى الابن والإله.
وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك. وإذا سألهم معتقدا تأثيرهم من دون الله فهو أكبر وأطم.9
ثانيا :
قولك في رسالتك "منحة العلام "(ص :16 ) معرفا الشرك الأصغر :
"الأول : شرك أكبر : ويكون فيما يختص بالله ولا يقدر عليه إلا الله كمن يدعو فيقول : ياسيدي فلان ارزقني ولدا.
الثاني : شرك أصغر : أن يدعو غير الله في أمر لا يقدر عليه ذات المدعو من باب ظن الشيء سببا وليس سببا".اهـ
قلت : هل سلفك في تعريف الشرك الأصغر بهذا التعريف أحد من أهل العلم ؟؟؟
إذا كان الجواب لا ،-وهذا هو الظن بك- فليسعك ما وسع السلف ولاتُدخل في الإسلام ماليس منه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ، ولم يسبقه إليه أحد منهم ، فإنه يكون خطأ.8
2 ـ التعريف الذي عرّفت به الشرك الأصغر هو تعريف للشرك الأكبر وهل أهل الشرك والزندقة لما يذبحوا وينذروا ونحو ذلك من القربات -التي لا يستحقها إلا الباري جل جلاله- للأموات والجن ونحو ذلك ،هل يعتقدون أنها ليست بسبب؟؟
الجواب : بدون أدنى شك ولا ريب هو أنهم يعتقدون أنها أسباب وهي في الحقيقة ليست كذلك والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه :
عبد الحميد الهضابي
26 / 05/ 1435
بمكة المكرمة
الحواشي :
1 ـ موضوع، للمزيد من الفائدة انظر :"الضعيفة" للألباني( 4 / 115 ).
2 ـ "مجموع الفتاوى" (15/286).
3 ـ "المنتقى من فتاوى الفوزان"(س: 22)
4 ـ "فتح المجيد"(ص : 245)
5 ـ انظر : "عيون الرسائل والأجوبة على المسائل" (2/710).
6 ـ "الدرر السنية"(1/417)
7 ـ "البراهين الإسلامية في رد الشبه الفارسية (116)"
8ـ "مجموع الفتاوى" (21/291)