بعض التنبيهات والتعليقات اليسيرات على ما كتبه عبد الصمد بن أحمد –وفقه الله- "الحلقة الثانية".

بعض التنبيهات والتعليقات اليسيرات على ما كتبه عبد الصمد بن أحمد –وفقه الله- "الحلقة الثانية".






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه الحلقة الثانية في ذكر بعض التنبيهات والتعليقات اليسيرات على ما كتبه الأخ الفاضل عبد الصمد –وفقه الله- في بعض مقالاته ،حيث جانب الصواب في بعض ما نظرّه وسطره ببنانه ،من ذلك :
اتهامه لصاحب كتاب: " السبيل إلى العز والتمكين "، باتهامات جائرة باطلة ، وإن كنا نخالفه ونضلّله ونحذّر منه، لكن العدل مطلوب وواجب مع كلّ أحد ، ولو كان كافرا مشركا ـ وسنبيّن ذلك في حينه –بمشيئة الله-.
فلذا وتلك أحببت أن أنبّه على ذلك من باب الدين النصيحة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد أمرنا الله تعالى بقول الحق الذي يضاده ويقابله الباطل ، والعدل الذي يضاده ويقابله الظلم والجور ، وذلك على الداني والقاصي، والقريب والبعيد، والعدو والصديق كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} [سورة النساء آية: 135] ، والنصوص الشرعية في ذلك كثيرة جدا ، ليس هذا موضع بسطها وبيانها.
قال عفا الله عنه في مقال عنونه بــ" رَدُّ فَهمٍ منكوسٍ لأصحابِ " عقيدة التَّمكينِ " في قَضيّة الجهادِ مع وليّ الأمرِ ":
شيخ الإسلام رحمه الله وما حصل له من النصح والدعوة إلى من وقعوا في الكفروالشرك ممن كاموا في صدد الجهاد في سبيل الله ضد التتار ، حيث قلت :
يعترض آخر : لكنك نسيت ما ذكره الشيخ العلامة [ المميع ] عبد المالك رمضاني في رسالته :" السبيل إلى العز والتمكين " من أن شيخ الإسلام ابن تيمية امتنع من الجهاد ضد التتار لكون المجاهدين كانوا يستغيثون بالقبور :
لوذوا بقبر أبي عمر...ينجيكم من الضرر
فهذه تُقَطّعُ دعواك تقطيعا...
والجواب عنها : هذه في أناس وقعوا في الشرك الأكبر، وليس في المعاصي والذنوب، وفرق بين المشرك والمسلم العاصي، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في كتابه " الاستغاثة " أنّ مَنْ خرج معهم من الصالحين في تلك الغزوة مأجورٌ معذور، وهذا الكلام حَذَفَهُ إمامكم المميع عبد المالك رمضاني عمدًا لكيلا يُكتشف شيءٌ من تَلاعُبِهِ بالشرع.
ثمّ إنّ الحجّةَ في الآثار، وليس في فعل شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره؛ فالرجال يُحتجُّ لهم، ولا يُحتجُّ بهم.
وقال أيضا : فقد اشتهر عند المميّعة من أتباع المنظّر عبد المالك رمضاني شُبْهَةٌ رخيصة ساقطة حول مشروعية الجهاد مع وليّ الأمر سببُها الرئيس : " عقيدة التمكين البدعية الإخوانية "، هاته الشبهة هي : أنّ الجهاد مع ولاة الأمور غير نافع الآن؛ لأنهم ورعيّتهم بعيدون عن الشرع!! وأنّ أيّ جهادٍ معهم نتيجتُهُ الحتميّة : الخسارة!! وهذا تَجدُهُ في كتاب " السبيل إلى العز والتمكين " للرمضاني.
والأصل العقدي لهذه الشبهة مأخوذ من قول الخوارج : ‹‹ أن الجهاد لا يكون إلا مع إمام عادل ››
يعترض آخر : لكنك نسيت ما ذكره الشيخ العلامة [ المميع ] عبد المالك رمضاني في رسالته " السبيل إلى العز والتمكين " من أن شيخ الإسلام ابن تيمية امتنع من الجهاد ضد التتار لكون المجاهدين كانوا يستغيثون بالقبور :
لوذوا بقبر أبي عمر...ينجيكم من الضرر
فهذه تُقَطّعُ دعواك تقطيعا...
والجواب عنها : هذه في أناس وقعوا في الشرك الأكبر، وليس في المعاصي والذنوب، وفرق بين المشرك والمسلم العاصي، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في كتابه " الاستغاثة " أنّ مَنْ خرج معهم من الصالحين في تلك الغزوة مأجورٌ معذور، وهذا الكلام حَذَفَهُ إمامكم المميع عبد المالك رمضاني عمدًا لكيلا يُكتشف شيءٌ من تَلاعُبِهِ بالشرع.
ثمّ إنّ الحجّةَ في الآثار، وليس في فعل شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره؛ فالرجال يُحتجُّ لهم، ولا يُحتجُّ بهم. اهـ

وقال عفا الله عنه مي مقال عنونه بــ"هل صحة العقيدة شرط للتمكين؟! " : كم قرأنا في كتب عبد المالك بن أحمد رمضاني وسليم الهلالي وعلي الحلبي وغيرهم من فلاسفة التمكين أن صحة العقيدة شرط للتمكين، وليس الموضع موضع نقل لأقوالهم؛ فقد سبق نقل الكثير منها في غير هذا التقرير.
وهذه في الحقيقة ردة فعل على منهج الإخوان البنائية التجميعي التكتيلي دون اعتبار لصحة العقيدة من عدمها!"
وقال أيضا :".. وقابلهم الرمضانية بموقف استبطائي ، فقالوا : نصلي ونزكي ونوحد الله ونقوم بسائر العبادات حتى تقوم الدولة الإسلامية ، ".

وقال في مقال عنونه بــ"التمكين بين الشاذلية والرمضانية !"، :الرمضانية شابهوا الشاذلية بحث الأمة الإسلامية على السعي في الاستقامة التامة والعصمة من الذنوب حتى ينالوا العلو في الأرض ، الذي هو التمكين الدنيوي ! فعاقبهم الله بنقيض قصدهم ، فأصبحوا مميعة مع الإخوان الخوارج بعد أن كانوا يحذرون منهم !
وهذا ما تراه في كتاب " السبيل إلى العز والتمكين " له، حيث دعا الإخوان المجرمين إلى إصلاح أفرادهم إصلاحا تاما؛ ولا يفعلوا كبعض الصحابة - رضي الله عنهم - حين عصوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فعاجلهم الله بالخسارة في المعركة" . 

وقال أيضا كما في مقاله المعنون بـــ"عبارات منتشرة في نظرية التمكين":" والمقصود بالعقيدة عند الإخواني إذا تكلم عنها هي : " عقيدة التمكين " الباطنية.
وكذلك هي عند عبد المالك رمضاني والحلبي والهلالي ومشهور وغيرهم". 

أولا :
ثانيا : الذي ندين الله به أن كلامك في حقّ صاحب رسالة: " السبيل إلى العز والتمكين"،قد تضمّن ظلما وجورا ، وذلك من أوجه عدّة :
الوجه الأول :
سبق وأن بيّنا بطلان كلامك ، بشيء من التفصيل في الحلقة الأولى من هذه التنبيهات.
الوجه الثاني :
قال :"الرمضانية شابهوا الشاذلية بحث الأمة الإسلامية على السعي في الاستقامة التامة والعصمة من الذنوب حتى ينالوا العلو في الأرض".
أقول : أين ، ومتى كان هذا الكلام ، وهذا التنظير ؟؟؟
الوجه الثالث :
قولك : مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في كتابه " الاستغاثة " أنّ مَنْ خرج معهم من الصالحين في تلك الغزوة مأجورٌ معذور، وهذا الكلام حَذَفَهُ إمامكم المميع عبد المالك رمضاني عمدًا لكيلا يُكتشف شيءٌ من تَلاعُبِهِ بالشرع.اهـ
قلت : بتر كلام أهل العلم ينقسم إلى قسمين :
الأول : يخلّ بالمعنى ، أي : إذا كان هذا الحذف والبتر من كلامهم سواء كان في سباق الكلام أوفي لحاقه أو في أواسطه يؤثّر في فهم المعنى ، أو كان ثمّة تقييدات واشتراطات في كلامهم ونحو ذلك ، فلا شك في عدم جوازه.
الثاني : ليس كذلك ، وإنما ينقل الشاهد من كلامهم بدون إخلال بالمعنى ، فهذا لا حرج فيه .
والذي فعله صاحب الرسالة المشار إليه آنفا من هذا القبيل.
وهذا ما أظنك فاتك ذلك، وإنما تغافلت وتجاهلته ، دليل ذلك أنك استوعبت كلام شيخ الإسلام ولم يرق لك ،واستدركت على قائله رحمه الله *بطريقة غير مرضية بقولك : ثمّ إنّ الحجّةَ في الآثار، وليس في فعل شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره؛ فالرجال يُحتجُّ لهم، ولا يُحتجُّ بهم.
الوجه الثالث :
قولك : *"يُكتشف شيءٌ من تَلاعُبِهِ بالشرع".
فهذا ظلم وتجني في حقّه ،حيث تصفه بهذا الوصف ،وأترك التعليق على ذلك للقارئ المنصف.
الوجه الرابع :
قال :" والمقصود بالعقيدة عند الإخواني إذا تكلم عنها هي : " عقيدة التمكين " الباطنية.
وكذلك هي عند عبد المالك رمضاني والحلبي والهلالي ومشهور وغيرهم".

قلت : فياحبّذا لو تنقل لنا اقوالهما أولا ، سواء كانت مسموعة،أومقروءة أومرئية ، كما هي طريقة أهل السنة في النقد البناء ، ثم تناقشهما ، وإذا فعلت ذلك يتبيّن للقارئ الليب المنصف في هذا الباب أحقّ اعتراضك ، فيوافقوك أو هو من قبيل عدم الفهم ، وقلة البضاعة ، فيخالفوك.
لأن هكذا الدعوة السلفية لا تعرف الغمغمة ، ولا المجاملة ، تقول : للمصيب أصبت ، وللمخطئ أخطأت.
قولك : ثمّ إنّ الحجّةَ في الآثار، وليس في فعل شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره؛ فالرجال يُحتجُّ لهم، ولا يُحتجُّ بهم.
قلت : وهل شيخ الإسلام رحمه الله خالف الأخبار والآثار ؟؟؟
كم وكم وكم سمعنا مشايخنا الفضلاء يحتجون بكلام شيخ الإسلام ،وينقلوه في كتبهم ، وهكذا من سبقهم من أهل العلم ينفلونه ويستشهدون به ،كما في "الدرر السنية" (1/ 415) ، و(10/229)، وجلاء العينين "(1/555) ،وغيرهما كثيروكثير.
بل قرأته مرّة على شيخنا ربيع بن هادي حفظه الله فبدأ يكبّر على إعجابه به .
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
13 / 08 /1439
مكة المكرمة
المزيد من المعلومات
بعض التنبيهات والتعليقات اليسيرات على ما كتبه عبد الصمد بن أحمد –وفقه الله- "الحلقة الأولى".

بعض التنبيهات والتعليقات اليسيرات على ما كتبه عبد الصمد بن أحمد –وفقه الله- "الحلقة الأولى".






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد اطلعت على مقال لأحد إخواننا الأفاضل عنونه بـ :" رَدُّ فَهمٍ منكوسٍ لأصحابِ " عقيدة التَّمكينِ " في قَضيّة الجهادِ مع وليّ الأمرِ"، وهكذا بقية مقالاته المتضمنة في ثناياها بعض الشطط المجانب للصواب.
فأحببت أن أذكر بعض التبيهات والتعليقات اليسيرات على ذلك ، حيث –عفا الله عنه- أنكر أشدّ النكير على أن صحة المعتقد شرط في التمكين في الأرض.
وهكذا أيضا في المقولة المشهورة : "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم".
و ينكر ويتنكّر للمقولة أيضا :" الإصلاح يبدأ من أسفل لا من أعلى ".
وأيضا :" من السياسة ترك السياسة".
فأقول وبالله التوفيق ، وبه نستعين :
قال عفا الله عنه في مقال معنون بـ :"الرد على العتيبي في كلامه على الدولة العثمانية":وبعضهم يعبر بقوله " العقيدة السلفية شرط للتمكين! "، وهذا باطل شرعا وقدرا، فما بعد الخلافة العباسية حتى السعودية لم توجد دولة أو خلافة قامت على العقيدة السلفية مع كثرة الممالك والدول. اهـ
وقال في مقال معنون بـ :" هل صحة العقيدة شرط للتمكين؟!كم قرأنا في كتب عبد المالك بن أحمد رمضاني وسليم الهلالي وعلي الحلبي وغيرهم من فلاسفة التمكين أن صحة العقيدة شرط للتمكين، وليس الموضع موضع نقل لأقوالهم؛ فقد سبق نقل الكثير منها في غير هذا التقرير.
وهذه في الحقيقة ردة فعل على منهج الإخوان البنائية التجميعي التكتيلي دون اعتبار لصحة العقيدة من عدمها!"
وقال في مقال عنونه بـــ:"رَدُّ فَهمٍ منكوسٍ لأصحابِ " عقيدة التَّمكينِ " في قَضيّة الجهادِ مع وليّ الأمرِ" : فقد اشتهر عند المميّعة من أتباع المنظّر عبد المالك رمضاني شُبْهَةٌ رخيصة ساقطة حول مشروعية الجهاد مع وليّ الأمر سببُها الرئيس : " عقيدة التمكين البدعية الإخوانية "، هاته الشبهة هي : أنّ الجهاد مع ولاة الأمور غير نافع الآن؛ لأنهم ورعيّتهم بعيدون عن الشرع!! وأنّ أيّ جهادٍ معهم نتيجتُهُ الحتميّة : الخسارة!! وهذا تَجدُهُ في كتاب " السبيل إلى العز والتمكين " للرمضاني.
والأصل العقدي لهذه الشبهة مأخوذ من قول الخوارج : ‹‹ أن الجهاد لا يكون إلا مع إمام عادل ››
يعترض آخر : لكنك نسيت ما ذكره الشيخ العلامة [ المميع ] عبد المالك رمضاني في رسالته " السبيل إلى العز والتمكين " من أن شيخ الإسلام ابن تيمية امتنع من الجهاد ضد التتار لكون المجاهدين كانوا يستغيثون بالقبور :
لوذوا بقبر أبي عمر...ينجيكم من الضرر
فهذه تُقَطّعُ دعواك تقطيعا...
والجواب عنها : هذه في أناس وقعوا في الشرك الأكبر، وليس في المعاصي والذنوب، وفرق بين المشرك والمسلم العاصي، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في كتابه " الاستغاثة " أنّ مَنْ خرج معهم من الصالحين في تلك الغزوة مأجورٌ معذور، وهذا الكلام حَذَفَهُ إمامكم المميع عبد المالك رمضاني عمدًا لكيلا يُكتشف شيءٌ من تَلاعُبِهِ بالشرع.
ثمّ إنّ الحجّةَ في الآثار، وليس في فعل شيخ الإسلام ابن تيمية ولا غيره؛ فالرجال يُحتجُّ لهم، ولا يُحتجُّ بهم. اهـ
وقال أيضا :".. وقابلهم الرمضانية بموقف استبطائي ، فقالوا : نصلي ونزكي ونوحد الله ونقوم بسائر العبادات حتى تقوم الدولة الإسلامية".اهـ
وقال أيضا كما في مقاله المعنون بـــ"عبارات منتشرة في نظرية التمكين":" والمقصود بالعقيدة عند الإخواني إذا تكلم عنها هي : " عقيدة التمكين " الباطنية.
وكذلك هي عند عبد المالك رمضاني والحلبي والهلالي ومشهور وغيرهم".

قلت : نعم ، وألف نعم على أن صحة المعتقد شرط في التمكين في الأرض لعباده المؤمنين ،فلا يكون عزّهم ولا مجدهم ورفعتهم واستخلافهم في الأرض ، وما ينتج من جراء ذلك من الآثار العظيمة من انتشار الأمن ، وزوال الخوف ، وحلول العدل ، وزوال الظلم والجور، وسلامة المجتمع من الهلاك ، ونزول البلاء ، وحلّ الخيرات ونزول البركات ونحو ذلك.
وقد دلّ على ذلك كتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه فهم الأصحاب رضي الله عنهم أجمعين ، ومن سلفهم من أئمة الإسلام ، وفحول العلماء.
قال الله تعالى: { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [سورة الحج* 40- 41] .
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [سورة محمد آية: 7] .
وقال تعالى : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } [سورة النور آية: 55]
وكما قال الفاروق رضي الله عنه : :"إنا كنا أذلَّ قوم،فأعزنا الله بالإسلام،فمهما نطلبُ العزةَ بغير ما أعزَّنا الله به أذَلَّنا الله".[1]
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه بدينه علما وعملا، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذى بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.[2]
قال محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله : إن أسلافنا قاموا بما شرط عليهم القرآن في قوله: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}. فتحقق معهم وعد الله في القرآن: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}.[3]
وقال ابن باز رحمه الله : هو الناصر وهو الولي سبحانه وتعالى، وقد وعد أن ينصر من ينصره فقال: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} ، ويقول سبحانه: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} ، لكن بالشرط وهو التمسك بدين الله، والإيمان به، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على دين الله.
هذا هو السبب، وهذا هو الشرط في نصر الله لنا، كما قال عز وجل: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} ، {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}.[4]
قال ابن عثيمين رحمه الله : التمكين في الأرض لا يكون إلا بعد تحقيق عبادة الله وحده كما قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا} [النور: 55].[5]
وسئلت علماء اللجنة الدائمة للافتاء مانصه :
السؤال: كيف تكون العزة للمؤمنين وهم الآن ضعفاء في العالم الذي فسد جوانبه وأوسطه، والنصارى واليهود هم الذين يسيطرون في العالم كيف يشاؤون، كيف تكون العزة للمؤمنين؟
فكان جوابهم ما يلي :
لا تحصل العزة للمؤمنين والنصر على الأعداء والتمكين في الأرض إلا بطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بالإسلام والإيمان ظاهرا وباطنا، وقد جاء في القرآن والسنة وعن السلف الصالح من الآثار ما فيه عظة وادكار، قال الله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) النساء/138، 139 وقال سبحانه: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) الحج/40، 41، وقال جل وعلا: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) النور/55، وقال جل جلاله: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) محمد/7، إلى غيرها [6]من الآيات الكريمات التي بينت ووضحت: أن تمكين المؤمنين وعزهم في هذه الحياة مشروط بقيامهم بما أوجب الله عليهم، من توحيده وتعظيمه وإجلاله، والعمل بكتابه واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومحبة أولياء الله المؤمنين، وبغض أعدائه من المنافقين والكافرين، ومجاهدتهم؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وغير ذلك من لوازم الإيمان. اهـ
قال الألباني رحمه الله : كلنا يعلم -إن شاء الله - أن قوله تبارك وتعالى {إن تنصروا الله} شرطٌ، جوابه {ينصرْكم} إن تأكل إن تشرب إن ..إن الجواب تحيا، إن لم تأكل إن لم تشرب، ماذا؟ تموت ؟. كذلك تماماً المعنى في الآية {إن تنصروا الله ينصركم} المفهوم - وكما يقول الأصوليون - : مفهوم المخالفة، إن لم تنصروا الله لم ينصركم؛ هذا هو واقع المسلمين اليوم. توضيح هذه الآية جاءت في السنة في عديد من النصوص الشرعية، وبخاصةٍ منها الأحاديث النبوية. {إن تنصروا الله} معلوم بداهة أن الله لا يعني أن ننصره على عدوه بجيوشنا وأساطيلنا وقواتنا المادية؛ لا ! إن الله عز وجل غالب على أمره، فهو ليس بحاجة إلى أن ينصره أحد نصراً مادياً - هذا أمر معروف بدهياً - لذلك كان معنى {إن تنصروا الله} أي إن تتبعوا أحكام الله، فذلك نصركم لله تبارك وتعالى.اهـ
ولنختم بكلام ماتع لشيخنا ربيع بن هادي حفظه الله حيث قال : فالخروج من الضياع والهوان ليس بالتغني بأمجاد الأسلاف، وإنما هو بالإقتداء بهم في الإيمان الصادق والعمل الصالح الذي نالوا به العز والتمكين الذي وعدهم الله به في قوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
هذا هو طريق العزة والكرامة وهذه هي أسبابها.
أيها المسلمون علماء وحكاما ومحكومين، هذه هي طريق الخروج من مواطن الضعف والذل والخوف فإن فرطتم فيها فلن تنالوا عزاً ولا تمكيناً، ولن تخرجوا من مواطن الذل والخوف بل لن تزدادوا على مر الأيام و السنين إلا ضعفاً وذلاً وخوفاً ورهقاً)).[7]

قال هداه الله : وبعضهم يعبر بقوله " العقيدة السلفية شرط للتمكين! "، وهذا باطل شرعا وقدرا، فما بعد الخلافة العباسية حتى السعودية لم توجد دولة أو خلافة قامت على العقيدة السلفية مع كثرة الممالك والدول. ا
أقول : أترك التعليق على كلامك هذا للقارئ العاقل ، وذلك في أن صحة العقيدة السلفية ليس شرطا في التمكين ، بل وصل بك الحال إلى أن جازفت وقلت : بأن هذا من الباطل شرعا وقدرا ، والله المستعان وعليه التكلان.

قال -هداه الله- : "فما بعد الخلافة العباسية حتى السعودية لم توجد دولة أو خلافة قامت على العقيدة السلفية مع كثرة الممالك والدول".
قلت : لعله خانه التقديم والتأخير في الألفاظ ، وإلا هذه الدولة المباركة المملكة العربية السعودية أعزّها الله بالسنة والتوحيد قامت على الدعوة السلفية المباركة ، ولا زالت كذلك ولله الحمد والمنّة ، والواقع اكبر شاهد على ذلك من قيامها بالتّوحيد ، ومحاربتها للشرك بكلّ أنواعه ،واشكاله وتطبيقها للحدود الشرعية ، وإقامتها لأركان الإسلام الخمسة حقّ قيام ، ونحو ذلك من أحكام الدين.

قال عفا الله عنه في مقال معنون بـ :" عبارات منتشرة في نظرية التمكين"، هذه عبارات منتشرة بسبب نظرية التمكين...
وربما تسربت لبعض الأفاضل الكرام من غير اطلاع على حقيقتها والمراد منها...
*[ الإصلاح يبدأ من أسفل لا من أعلى ]
والدليل الشرعي يبطل هذه العبارة أصلا؛ ففي الحديث : " النصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم ".
فبدأ - صلى الله عليه وسلم - بالأعلى قبل الأسفل.
وقال بعض السلف : لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها في السلطان؛ لأن صلاحهم صلاح للعامة.
ومقصود هذه العبارة هو أيضا : إنشاء قاعدة للمجتمع المسلم؛ *لأن الحكام كفار يجب التخطيط للقضاء عليهم! اهـ


قلت : هذه العبارة كسابقتها من العبارات الصحيحة التي تسرّعت -عفا الله عنك- في إبطالها، وسببه عدم فهمك لها-والله أعلم- ، وإلا معناها صحيح لا غبار عليه ، وهو الذي مضى عليه نبينا صلى الله عليه وسلم الذي هو قدوتنا ونبراسنا في ذلك ، فقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم في أولّ الأمر في قرابته وأهل بيته ، ثم في أصحابه وأهل بلده ، ثم لما حصل له ماحصل من المضايقات من التهديد والأذية له ولأصحابه ، وتعسّر لهم أن يقسموا شرائع الإسلام أمره الله تعالى بالهجرة إلى المدينة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
فإذا بدأنا بإصلاح أنفسنا ، ثم بأهل بيتنا وأسرتنا وهكذا قرابتنا ، وأهل حيّنا ومنطتنا ، محافظتنا ، وهكذا بمشيئة الله يعمّ الخير ، وينتشر الأمن في جميع البلد .
قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم:6].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، قال: «يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا»[8]
قال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [سورة الرعد آية: 11]، وقال تعالى : {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم} [سورة الأنفال آية: 53]، وقال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [سورة الشورى آية: 30]
ونحوذلك من النصوص الشرعية في ذلك.
قال العلامة الألباني رحمه الله : فمن أين نبدأ ؟ هل يكون البدأ بمحاربة الحاكمين المسلمين ؟! أو يكون البدأ بمحاربة الكفار أجمعين من كل البلاد ؟! أم يكون البدأ بمحاربة النفس الأمارة بالسوء ؟ من هنا يجب البدأ، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله و سلم إنما بدأ بإصلاح نفوس أفراد المسلمين المدعوّين في أول دعوة الإسلام - كما ذكرنا في أول هذا الكلام- بدأت الدعوة في مكة ثم انتقلت إلى المدينة ثم بدأت المناوشة بين الكفار و المسلمين، ثم بين المسلمين و الروم، ثم بين المسلمين و فارس.. و هكذا - كما قلنا آنفاً - التاريخ يعيد نفسه فالآن المسلمون عليهم أن ينصروا الله لمعالجة هذا الواقع الأليم، وليس بأن يُعالجوا جانباً لا يثمر الثمرة المرجوة فيها، لو استطاعوا القيام بها ! ما هو هذا الجانب ؟ محاربة الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ! هذا أولاً - كما قلت آنفاً لابد من وقفة قصيرة - غير مستطاع اليوم، أن يُحارب الحكام؛ وذلك لأن هؤلاء الحكام لو كانوا كفاراً كاليهود والنصارى؛ فهل المسلمون اليوم يستطيعون محاربة اليهود والنصارى ؟ الجواب: لا، الأمر تماماً كما كان المسلمون الأولون في العهد المكي، كانوا مستضعفين، أذلاء، محاربين، معذبين، مُقَتَّلِين لماذا ؟! لأنهم كانوا ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، إلا إيمانهم الذي حلّ في صدورهم، بسبب إتباعهم لدعوة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ هذا الإتباع مع الصبر على الأذى هو الذي أثمر الثمرة المرجوة؛ التي نحن ننشدها اليوم، فما هو السبيل للوصول إلى هذه الثمرة ؟ نفس السبيل الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه الكرام،
وقال شيخنا محمد بازمول حفظه الله ـ الإصلاح يبدأ من الفرد لا من المجتمع ولا من الحاكم ولا من غيره إنما كل إنسان يبدأ بنفسه فيصلحها و أدناه فأدناه
والله سبحانه يقول (ِإنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) الرعد 11
فالبدء بالنفس ثم الاقرب فا لاقرب ، قال تعالى (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) الشعراء214
عن ابى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((تصدقوا!)) فقال رجل: يا رسول الله عندى دينار قال: عندى آخر قال : (( تصدق به على نفسك)) قال عندى آخر قال (( تصدق به على زوجتك)) قال عندى آخر قال (( تصدق به على ولدك)) قال : عندى آخر قال تصدق بع على خادمك)) قال: عندى آخر قال ((انت أبصر))
فإذا كان هذا فى باب الصدقة فما بالك فى امر الاصلاح؟!
فطريق الاصلاح يبدأ بالفرد، وصلاح الفرد صلاح الاسرة، وصلاح الاسرة صلاح الحيّ، وصلاح الحيّ صلاح البلد
وصلاح البلد صلاح الدولة، وصلاح الدولة صلاح الامة، وصلاح الامة صلاح الارض جميعاً
فالبدء بالنفس هو الاساس:
فأبدأ بنفسك فإنها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم.اهـ
وإذا استوعبت ،وفهمت وعقلت ،وتدبّرت كلام العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله فهمت ماهي الرسالة التي أودّ أن أوصلها إليك-وفقك الله لكلّ خير- حيث قال رحمه الله :وتأمل حكمته تعالى فى أن جعل ملوك العباد وأمرائهم وولاتهم من جنس أعمالهم،بل كأن أعمالهم ظهرت فى صور ولاتهم وملوكهم،فإن استقاموا استقامت ملوكهم،وإن عدلوا عدلت عليهم،وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم،وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك،وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بهامنعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم ،وإن أخذوا ممّن يستضعفونه ما لا يستحقونه فى معاملتهم أخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة.
وليس فى الحكمة الإلهية أن يولى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم،ولما كان الصدر الأول خيارالقرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك،فلما شابوا شابت لهم الولاة،فحكمة الله تأبى أن يولى علينا فى مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز؛ فضلا عن مثل أبى بكروعمر،بل ولاتنا على قدرنا،وولاة من قبلنا على قدرهم».

قال عفا الله عنه في مقال معنون بـ :" عبارات منتشرة في نظرية التمكين"، هذه عبارات منتشرة بسبب نظرية التمكين...
وربما تسربت لبعض الأفاضل الكرام من غير اطلاع على حقيقتها والمراد منها.
ظ، - [ أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم ].
وهذه عبارة في ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، بل لو تنبه قائلها لأدرك أنها عبارة تحتوي الزندقة؛ فهي من جنس عبارات الباطنية كالقرامطة والحشاشين.
هذه العبارة مضمونها نفي وجود الحاكم المسلم في عصرنا، وأن جميع الحكام كفار؛ ففكرة الدولة الإسلامية معتقد قلبي لا وجود له في الخارج؛ لذلك يجب أن نعتقدها باطنا حتى تصير واقعا مشاهدا.اهـ


أولا :
أبو قتادة الفلسطيني الخارجي المارق اتّهم العلامة الألباني – رحمه الله- في مقولته : أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم على أرضكم. أن فيها الإرجاء
وأنت قابلته من جهة وكفّة أخرى وذكرت أنها تحتوي على الزندقة ، وهي من جنس أقوال الكفرة الفجرة من القرامطة الإسماعيلية الباطنية ، ومن كان على نمطهم ، ومضى على دربهم ، وغير ذلك مما نظّرته -عفا الله عنك-.
وحقيقة الأمر لم تصب الحقّ لا أنت ولا ذلكم الخارجي الفاجر ، لأن تلكم المقولة صحيحة لا غبار عليها من ناحية النصوص الشرعية ، حيث أن الدعوة إلى الله أصلها وأساسها ومنطلفها من العلم الشرعي ، ثم العمل بما علمته* ، ثم الدعوة إلى ماعلمته وعملت به وذلك على قدر استطاعتك ولا يكلّف الله نفسا إلا وسعها ، وهكذا في مسألة إنكار المنكر ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».[9]
فالذي أراده الله وأمرنا به هو الائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه ، وأن نحكّم ونطبّق شرع الله في أنفسها ومن كان تحتنا ممن استرعانا الله تعالى من الرعية من الأزواج والذرية، وكذا بالنسبة للحكام مع رعيتهم ، والعبد مع سيّده ، ونحو ذلك ممّن استرعاه الله من الرعية وحمّله من المسؤولية.

تنبيه مهم :
لا يفهم من كلامي أني لا أرى عدم وجوب الجهاد مع الحاكم الظالم الفاجر ، فحاشا وكلّا ولا لعلّ أني اقول بذلك واعتقده، وهذه المسألة مما تميّز بها أهل السنة والائتلاف ، وبين أهل البدع والاختلاف ، وإنما كلامي منصب في حيثيات أخرى ، وقد سبق بيانها وإيضاحها في أن صحة المعتقد شرط في التمكين في الأرض .
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
13 / 08 /1439
مكة المكرمة

الحواشي :
[1] ـ أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/61، 62)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(1/47)،وصححه الألباني قي "صحيح الترغيب والترهيب"( 2893).
[2] ـ "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" (2/ 181-183)
[3] ـ " آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي "(1/325).
[4] ـ* (1/247)
[5] ـ " مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين"(20/331).
[6] ـ" فتاوى اللجنة الدائمة"* (26/ 46-49)
[7] ـ "دعوة جادة إلى العالم الإسلامي لتطبيق ما صرح به الرئيس المصري حسني مبارك في المؤتمر الإسلامي"
[8] ـ أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (204)
[9] ـ أخرجه مسلم (49)
المزيد من المعلومات
هل الإنكار العلني والطعن في ولاة أمور المسلمين الذين ليسوا ولاة أمرك من منهج السلف ؟؟؟

هل الإنكار العلني والطعن في ولاة أمور المسلمين الذين ليسوا ولاة أمرك من منهج السلف ؟؟؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أبا بعد :
فقد انتشر في بعض إخواننا السلفيين فضلا عن غيرهم الطعن في بعض حكّام المسلمين الذين هم ليسوا حكّامهم ، وذلك بحجّة أن وليّ أمر تلكم البلاد ليس وليّ أمر لهم ، وهكذا أيضا بحجّة أنهم من الإخوان المسلمين ، أومن الصوفية الضالين ،أو يطعنون في بعض حكام المسلمين بحجّة الدّفاع عن بلدهم ، ونحو ذلك من الشّبهات والمشتبهات، وهذا كلّه من الجهل بمنهج السلف بمكان ، وهو في حقيقة أمره من تلبيس إبليس عليهم، وإن دلّ على شيء فإنما يدلّ على قلّة العلم والفقه والبصيرة في الدين ، وليس من منهج السلف في شيء، وليس عليه أثارة من علم.
وسنبيّن بمشيئة الله ذلك بشيء من البسط ، والبيان ، والإيضاح ، وسننقل بعض فتاوى مشايخنا السلفيين في ذلك لعلّ الله أن ينفع بها ، ويكتب لنا المثوبة من عنده إنه جواد كريم .
ووالله وبالله وتالله لا أقصد أيّ أحد بمقالي هذا ، فلذلك لا ينبغي أن يحوّل المقال إلى غير مساره ، وإلى غير ما كتب من أجله في بيان هذه المسألة لا غير، وذلك على وفق ما فهمه وقرّره ورّاث الأنبياء عليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم ،والله الموفّق والهادي إلى سواء السّبيل.
أولا :
من منهج أهل السنة والجماعة السمع والطاعة لولاة الأمور من أهل الإسلام والإيمان ، وإن كانوا فجارا ضلالا ، ومعصيتهم في معصية الله ، وفي آن واحد لا ينزعون يدا من طاعة، فضلا أن ينازعوهم في ملكهم ، ويشقّوا عصا الطاعة ، ويفرّقوا أمر الجماعة.
ومن لوازم ذلك عدم الطعن والتشهير بأخطاء ولاة الأمور لا في الصحف ، ولافي المجلات ، فضلا عن الدروس والمحاضرات ونحو ذلك من الوسائل التّواصل الاجتماعي الحديثة على اختلافها وتنوّعها.
ويستصحب هذا الأصل السلفيّ الذي خالفه جلّ أهل البدع بل كلّهم[1]، وهو عدم الطعن والتشهير بأخطاء حكاّم المسلمين ، ولو كانوا غير حكّام بلدك ، وذلك لأن أحكام الله كلها معلّلة ، ولا يشرّع لعباده الأحكام الشرعية إلا ما هو خير لهم، في دنياهم وأخراهم ، وهذه العلّل علمها من علمها وجهلها من جهلها ، ومن أعظمها أن المسلم يفعل المأمورات ، ويترك المنهيات تديّنا وتقرّبا* إلى الله جلّ وعلا ، يبتغي في ذلك مرضات ربه ، والنيل من رحمته ، والظفر بدار كرامته.
ومن تلكم العلل أيضا ما سبقت الإشارة إليه وهو ما يحصل من جرّاء ذلك من المفاسد العظيمة ، والفتن والمحن.
وأهل السنة والجماعة يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر بما توجبه هذه الشريعة الغرّاء ، فكلٌّ يعامل على وفق ما أراده الله تعالى *، سواء كان من المسلمين الأتقياء ، أو كان من الكافرين الأشقياء ، فالجار الكافر له حقّ عليك ، وإذا كان مسلما من باب أولى ، وإن كان قريبا فأولى وأولى ، له حقّ القرابة والإسلام وهكذا الجوار.
وإن كان أبويك على الكفر أو أحدهما، ويسعيان سعيا حثيثا في إضلالك وزيغك وانحرافك عن نهج الله المستقيم، والكفر بدينه القويم، فوق هذا كلّه وجب أن تحسن إليهما ،وترفق بهما ، وتطيعهما في المعروف ، وأن ترفق بهما وتلين لهما الجانب ،وأن تحسن إليهما ،وتقل لهما قولا معروفا، وأن تدعوهما بالكلمة الطيّبة ، وبالأسلوب الحسن قال تعالى: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا } [ لقمان : 15 ].
إذا القضيّة ومافيها وماعليها الاتباع ،والسمع والطاعة ،والانقياد للمأمورات ، والانتهاء عن المنهيات على وفق ماجاء في شرع الله تعالى ، على مراد الله ، وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81]
ومن ذلك وليّ أمرك إن ظلم وفجر وطغى وبغى ، بل ولو ضرب ظهرك ، وأخذ مالك فما عليك إلا الصبر ،والسمع والطاعة في المعروف، وعدم نزع وشقّ عصا الطاعة ، فضلا عن التشهير به وسبّه ، ومنازعته في ملكه ، والخروج عليه.
وهكذا عدم ذكر عيوب حكّام المسلمين ، وإن كانوا غير ولاة أمرك.
قال شيخنا زيد بن هادي المدخلي رحمه الله : الخوض في شأن حكام المسلمين و سياستهم فهو من الخطأ المحض الذي يجب تركه , لأنه من صفات أهل البدع لا من صفات أهل السنة و الجماعة .
فأما أهل السنة والجماعة فإنهم يدعون للحكام المسلمين و إن جاروا و فسقوا , ولا يدعون عليهم , و يظهرون محاسنهم و لا يظهرون مساوئهم و هذا معلوم قاله علماء السلف ويقول به أتباعهم اليوم , وما ذلك إلا لأنه يترتب على إظهار المساوئ وعقد المجالس لغيبتهم من السوء والمكروه و الفرقة و الفوضى ما يعلمه الكثير من طلاب العلم .[2]
ثانيا :
من تتبّع واستقرأ ما كان عليه سلفنا الصالح يجده جليّا في عدم جواز القدح ، وذكر عيوب حكام المسلمين عموما على سبيل التشهير ، والرد العلني، سواء كان هذا الحاكم المسلم وليّ أمر البلاد ، أو كان وليّ أمر دولة أخرى ، وذلك منذ أيام سقوط الخلافة الإسلامية إلى يومنا هذا ،وهكذا لما انقسم أهل الإسلام والإيمان إلى دويلات ، وكلّ قطر منها لها حاكمها ، ووليّ أمرها ،وكلّ من الرعيّة يدين له السمع والطاعة وذلك بإجماع العلم ، ولم يثبت عن أيّ أحد من أهل العلم والفضل أنه كان يتكلّم ويقدح ويطعن في حكام المسلمين الآخرين، ويظهر ويشهّر بعيوبهم.
ثالثا :
قد جرّ هل الفعل الشنيع من قبل بعض إخواننا السلفيين إلى فتح مجال الطعن في هذه الدعوة المباركة السلفية التي هي بريئة من ذلك ، ورميهم بالتّناقض.
وكما لا يخفى على كل أحد ما يحصل من الإضرار بالدعوة السلفية وبالسلفيين في تلكم البلاد -المطعون في حاكمها من قبل من اشتهر بالسنة والسلفية-.
ناهيك ما يحصل من جرّاء ذلك من إيغار صدور الولاة والدولة عليهم ممّا يؤدي إلى إضعاف دعوتهم وإلحاق الضرر بهم.
بل ويفتح بابا لأهل البدع والأهواء للتأليب والتنشنيع على حكام المسلمين والطعن فيهم بحجّة جواز ذلك.
رابعا :
المنطق الذي مبدؤه جاز لك أن تطعن وتنال من وليّ أمرنا مادمت مصريا –مثلا-، ولا بأس أن أطعن وأنال من ولي أمرك مادمت ليست من بلدك ، فهذا كلّه من العبث ، ومن الجهل بمنهج السلف بمكان ، بل وُجد بعض الغوغاء من دهماء الناس وجهلتهم –وإن ادّعوا السلفية- أنهم يقرّرون أنه يجوز أن تطعن في أمير المدينة ،أو في أمير القصيم ، أو في أمير الرياض ،وهكذا في بقية الأمراء مادام أنك ليس من تلكم المحافظة والمنطقة ، وهذا أشنع وأقبح وأفضع من المسألة التي نحن في صددها وذكرها ،وبيانها ،والله المستعان .
خامسا :
وليّ أمرك لا شكّ أنه يمنعك أن تتكلّم في حكّام المسلمين ، لأن ذلك يعكّر العلاقة بينهما ، ولا يخفى على كلّ عاقل ما ينتج من جرّاء هذا الفعل الشنيع، والفعل القبيح من الفتن والمحن بين الدولتين ،وخاصة إذا كان هذا الطاعن ذو مكانة علمية وقدوة في الخير ، وإذا تكلّم يسمع لكلامه ، ويتّبع في قوله ، فإنه بذلك يعظم الخطب ، ويوقع الناس في اللّبس ، والشّبهة، لأنه محلّ ثقة ،ومحطّة للأخذ عنه .
سادسا :
أنت إذا طعنت في بعض حكّام المسلمين بحجّةّ أنهم ليسوا ولاة أمرك ، يأتي في المقابل من يطعن في وليّ أمرك ،ويعلن الإنكار عليه علنا ، وهذا مما لا يرضاه أيّ عاقل ، لأنه يولّد بذلك الأحقاد ، والنّزاعات ، وتقوم النّعرات الجاهلية ، والحزبية ، والقومية ، والطائفية ، ويولّد الحقد والكراهية في *قلوب الشّعوب على حكّامها، وينتج عن ذلك الفتن ، والفوضى، وانفلات الأمن ونحو ذلك من المحن.
وهذا واقع ماله من دافع ، والواقع أكبر شاهد على ذلك.
وسدّ الذرائع المفضية إلى المحرّم وغلقها ومنعها من أوجب ما يكون ، والوسائل لها أحكام المقاصد[3] ، فكلّ ما أدى إلا محرّم من الوسائل الغير المشروعة شرعا فحكمه التحريم، قال تعالى : {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [الأنعام: 108]
*قال ابن كثير رحمه الله : ومن هذا القبيل -وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها- ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ملعون من سب والديه". قالوا يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"، أو كما قال، عليه السلام.[4]اهـ.
وقال عبد الرحمن السعدي رحمه الله : ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزا، بل مشروعا في الأصل، وهو سب آلهة المشركين، التي اتخذت أوثانا وآلهة مع الله، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها.
ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين، الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب وآفة وسب وقدح؛ نهى الله عن سب آلهة المشركين، لأنهم يحمون لدينهم، ويتعصبون له ... وفي هذه الآية الكريمة، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها، وأن وسائل المحرم، ولو كانت جائزة تكون محرمة، إذا كانت تفضي إلى الشر.[5]اهـ.
سابعا :
الطعن فيهم يدخل ضمن باب إشاعة الفاحشة بين أهل الإسلام والإيمان دخولا أوليّا ،قال عز وجل : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [النور: 19 [
ثامنا :
من شروط إنكار المنكر أن يكون منكرا عند الله تعالى ، وأن لا يكون في إنكار هذا المنكر منكر أعظم من المنكر الذي يُراد إنكاره ، فالذي يطعن في حكّام المسلمين سيفتح باب شرّ مستطير ، ويعود ذلك الشرّ على الفرد والمجتمع ، وهوأعظم منه بكثير ،بل لا يقارن من المنكر الذي يريد أن ينكره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهم.[6]
وقال رحمه الله أيضا : والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تحصل أعظم المصلحتين بفوات أدناهما وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما فإذا وصف المحتمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان لم يمنع ذلك أن يكون قد وقع به ما هو أحب إلى الشيطان منه.[7]
وقال رحمه الله : والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها.[8]
تاسعا : 
ولأنها غيبة في حقّ هذا الحاكم المسلم الشرعي الذي هو ليس حاكمك، وهذا إذا كانت – أي:الغيبة- حقا وصدقا ، وإلا تعدّ بهتانا وفجورا ،قال تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات: 12].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه.[9]
عاشرا :
ولأن هذه الطعن فيهم يدخل ضمنا ، بل يدخل دخولا أوليا في القالة بين الناس ,وما يترتّب عليها من جرّأء ذلك من الفتن والمحن ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس.[10]
الحادي عشر :
الإنكار العلني على حكّام المسلمين لا ريب فيه ولا شكّ ولا أدنى من ذلك أنه يسبب الفتن في المجتمع، وينتج عن ذلك إثارة العداوة والشحناء بين المسلمين وبثّ الأحقاد ، ودبّ الفرقة بين الدول المسلمة ،ويعود أثره حتى على الفرد والمجتمع ، سواء كان ذلك في أمور اقتصادية ، أو سياسية أو نحو ذلك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء ، وهذا شأن الفتن ، كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} ،وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله .[11]
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : توزيع الأشرطة الخبيثة التي تدعو إلى الفرقة والاختلاف وسب ولاة الأمور والعلماء لا شك أنها من أعظم المنكرات.
والواجب الحذر منها. اهـ
الثاني عشر :
الذي رأيناه من مشايخنا وعلمائنا السلفيين هو البعد عن السياسة وما يتعلّق بها ، وإنما كان شغلهم الشاغل ،وهمّهم الكبيرهو إرشاد الناس ،وتعليمهم ، وتثقيفهم ، وبيان الأحكام الشرعية لهم ، كما كان عليه الأنبياء والرّسل عليهم أفضل الصلاة والسلام ، لا الدخول في السياسات التي لا نفع فيها ، والتي تضرّ ولا تنفع.
ومما ينبّه عليه من المقال في هذا المقال أنه لا يجوز الدخول في السياسة إلا من كان من أهل الساسة من ولاة الأمور ، ومن العيب ، والشنار ، والجهل بمكان أنك ترى طالب علم يتكلّم في أمور السياسة -الغير شرعية- ،وما يتعلّق بأمور الدولة ،ويتكلّم في مسائل هي أكبر حجما منه ، وفوق مستواه، بل يتكلّم في أمور لو كان الفاروق رضي الله عنه حيا يرزق لعله جمع لها أهل بدر.
قال شيخنا صالح الفوزان حفظه الله : ﺃﻣﻮﺭ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻷﻫﻞ ﺍﻟﺤﻞّ ﻭﺍﻟﻌﻘﺪ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻷﻓﺮﺍﺩ ﺍﻟﻨﺎﺱ ،ﻭﺍﻟﺪّﻫﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺮّﻭﻳﺒﻀﺔ ﻣﺎ ﺗﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﻮﺭ، ﻫﺬﻩ ﺗﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻞ ﻭﺍﻟﻌﻘﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﺮﺃﻱ ، ﻧﻌﻢ ﺇﺫﺍ ﺍﺣﺘﻴﺞ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ.
ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ ﺍﻟﺴّﻤﻊ ﻭﺍﻟﻄﺎﻋﺔ ﻭﻻ ﺃﺣﺪ ﻳﺘﺪﺧّﻞ.اهـ
ورحم الله العلامة الألباني وتغمّده بواسع رحمته حيث قال : "من السياسة ترك السياسة".
وقال شيخنا عبيد الجابري حفظه الله : الأمور السياسية ليست من شَأْنِنا، هي من شأن ولاة الأمور، ولهذا يُشَنِّع أهل العلم، وأحفظ - كما بلغني- عن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله- يقول: "السياسة بنت كلب"، أنا أقول من وَلَجَ السِّياسة ضاع وأضاع، وهذا يُسْتَنْبَطُ أيضًا من قوله تعالى:﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ*وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، وهذه الآية - وإن كانت لها سببٌ خاص كما في صحيح مسلم له قِصَّة نختصرها الآن- إلَّا أنها عامَّة، والعبرةُ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، فيُرد هذا إلى أهل السِّياسة؛ الحُكَّام، هذا أمر.
والأمر الآخر: الكلام في السِّياسة يؤدّي إلى التحريض على الخروج، إلى تحريض الخوارج، وإشاعة الفوضى، وزعزعة الأمن في البلاد والعباد، فيجبُ تَرْكُها، فيتلخَّص أنَّ كل أمر يُرَدُّ إلى أهلهِ، فالأمور الشرعية تُرَدُّ إلى أهل الشَّرع الرَّاسخين في العلم الشَّرعي، أهل السُّنة والجماعة، وأمور السِّياسة تُرَدُّ إلى أهل السِّياسة، فليس لِكُلِّ شخصٍ أن يَتَحَدَّث في كُلِّ أمر أبدًا، والتفصيل كما ذكرتُ لكم آنِفا. نعم.
الثالث عشر :
لو سلمنا جدلا أن بعض أفعال وأقوال حكام المسلمين غير صحيح، فإن الواجب هو الصبر عليهم ،ونصحهم سرّا ،والدعاء لهم ، كما هو منهج أهل السنة في التّعامل مع الحاكم الظالم ، ولايجوز أن يُشهّر بهم ويُطعن فيهم بهذه الطريقة البدعية، وإن كانت هذه الأمور مكذوبة عليهم فيكون حينئذ أشد جرما وإثما.
ويدخل مانحن فيه في وجوب نصح حكام المسلمين لمن استطاع الى ذلك سبيلا عموم قوله صلى الله عليه وسلم قال : « الدين النصيحة » قلنا لمن قال: « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ».[12]
وما ثبت عن عياض ابن غنم الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه.[13]
قال العلامة السندي رحمه الله : في قوله: "من أراد أن ينصح لسلطان"، أي: نصيحة السلطان ينبغي أن تكون في السِّر، لا بين الخلق.[14]
وعن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان، قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنهم كلاب النار» ، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: «بل الخوارج كلها» . قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس، ويفعل بهم، قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: «ويحك يا ابن جمهان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم إن كان السلطان يسمع منك، فأته في بيته، فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك، وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه.[15]
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه، إلا أسمعكم؟ إني أكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أولّ من افتتحه[16].
قال عبدا لله بن عكيم الجهني : لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان !!
فقيل له : يا أًبا معبدٍ أًوَ أًعنت على دمه ؟
فيقول : إِني أُعِدُّ ذِكْرَ مساويه عوناً على دمِهِ.[17]
الرابع عشر :
أقوال أهل العلم في ذلك :

1 ـ سئل شيخنا عبيد الجابري حفظه الله ما نصه : بعض الشباب يتكلّمون في الحكّام الذين ليسوا حكامهم - من دولٍ أخرى -، وإذا نصحتهم قالوا هؤلاء ليسوا حكامًا علينا فكيف نرد عليهم؟
فأجاب بقوله :
أنا سمعتها قبل أشهر منسوبة إلى أخٍ لنا في نجد، وأنا في الحقيقة لم أتتبعها، وسواءً صحَّت عنه أو لم تصح؛ هذا خطأ في هذا العصر، لأنَّه ما من بلدٍ إلَّا فيه من الهمج الرعاع الذين تأخذهم الحَمِيَّة, ولهذا لا أرى جوازها لِمَا يترتّب عليها من مفاسد، فإِذَا مثلًا سببنا أو عيَّرنا حاكمًا في غير بلدنا فلا يتورَّع سفيهٌ غشومٌ أعوج أهوج أن يسبَّ حكَّامنا ويحرِّض عليهم وقد يدخل مع الخوارج في خططهم, ودرء المفاسد قاعدة شرعية، وقد فصَّلنا القول في هذه المسألة في عدة مجالس، ومنها [تيسير الإله بشرحِ أدلة شروط لا إله إلا الله] وغيره.[18]

2 ـ *وسئل شيخنا محمد بن هادي المدخلي حفظه الله ما نصه : أحسن الله إليكم نرجو من فضيلتكم توجيه نصيحة لبعض طلاب العلم وبعض الشباب الذين انخرطوا في الكلام علي ولاة أمور بعض دول الخليج بحجّة أن هؤلاء الولاة ليسوا ولاة أمورهم ،وأن هذه الدولة ليست دولتهم ،وقد انتشر هذا المنهج للأسف الشديد انتشارا كبيرا في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها مع كثرة دخول الشباب السلفي في السياسة وكثرة الخوض فيها ؟
فأجاب بقوله :
الحمدلله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك علي عبده ورسوله نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن النبي - صلي الله عليه وسلم - قد أجاب عن هذا السؤال ، ولم يدعه لنا ولم يدع* فيه مجالا للاجتهاد* .
ذلك في الحديث الذي صح عنه عليه الصلاة والسلام وهو مشهور عند كثير من طلبة العلم ولله الحمد وهو قوله عليه الصلاة والسلام :(من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يبده علانيه وليأخذ بيده وليخلوا به وليحدثه فيما بينه وبينه فإن قبل منه فذاك وإلا كان أدي الذي عليه* ) .
فقوله عليه الصلاة والسلام :" لذي سلطان" عام ، فإن "ذا" الذي جاء ذكره في الحديث بالجر لذي سلطان ،" ذو" هنا بمعني صاحب ، من ذاك ذو ان صحبة أبان ..يقول ابن مالك -رحمه الله - في الخلاصة" فذو "بمعني صاحب .
من كانت عنده نصيحة لصاحب سلطان فلم يقيده النبي - صلي الله عليه وسلم - بسلطانك أنت وإنما قيّده بالسلطان الذي تنصح له أو تريد النصيحة له ؛ فلا تبده علانيه ، فهذا أمر واضح من النبي - صلي الله عليه وسلم - فيجب علي العبد أن يمتثله ومن تركه فهو صاحب هوي، والفهم هذا الذي ذكرتموه هذا فهم غير صحيح فإن النبي - صلي الله عليه وسلم - يقول : من كانت عنده نصيحة لذي سلطان أي لصاحب سلطان فأي سلطان من سلاطين المسلمين ، فإن الواجب له علي كل مسلم إذا أراد أن ينصح له ؛ ألا يبده علانيه لما في ذلك من الشر ولما في ذلك من الضرر ، ولأن المقصود من النصيحة إيصال الخير إلي الغير ، واستجلابه من الغير إلي الغير إيصال النصيحة منك إلي السلطان واستجلاب الخير منه إلى رعيته وشعبه وعموم المسلمين الذين هم تحته ، وهذا ينافي ، هذه الطريقة تنافي هذا المقصود ،فإذا ما نصحته علي هذه الطريقة وتكلمت به وشهرت به ، فإنه لا يقبل منه فحينئذ تكون ممن قيل فيه : رام نفعا فضر من غير قصد ، ومن البر ما يكون عقوقا .
وأنا أوجه سؤالا لمن يقول هذه المقالة ،وهو ليس بسلطان ، هل ترضي إذا كنت في السعودية أن يسبك رجل في الكويت ؟
لا ترضي ؛ لكان كذلك وأنت لست بسلطان فاعتبر هذا بنفسك .
فدعوى الإقليمية والقطرية هذه غير صحيحة ولا تخصص بها أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم *فإن كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يخصّص إلا بكلامه عليه الصلاة والسلام .
هذا الفهم غير صحيح بل هو فهم سقيم والواجب على من يسمع هذه الكلمة أن يتفهّم في كلام الله وكلام رسول الله صلي الله عليه وسلم على الوجه الصحيح.
وأنا ضربت له مثالا هذا القائل إذا كان مثلا في السعودية فهل يرضي أن يسبه إنسان في الكويت ؟
يقول هذا ما هو من الكويت ما هو كويتي ، هذا غير صحيح ما يقبله ، لا يمكن أن يعذره بهذا سيردّ عليه غدا في النت مباشرة ، أو يردّ عليه في الصحف ، أو يقوم يذهب إلي بلده يرفع عليه دعوة ؛ دعوى بأنه يسبّني أو يشهّر بي ، هل يقبل منه هذا الاعتذار؟، ما يقبل.
فالواجب علي العبد أن يأتي الناس ما يحبّ أن يؤتوه له .
هذا الذي أوصي به نفسي وإخواني جميعا .
وأما هذه المقالة التي ذكرتموها فهي مقالة خاطئة تدل علي جهل وعدم فهم أو علي هوي نسأل الله العافية والسلامة .اهـ

3 ـ وسئل شيخنا سليمان الرحيلي حفظه الله مانصه : أحسن الله ُ إليكم، يقول السَّائلُ: هل يجوز للمُسلِمِ أنْ يتكلَّم على وليِّ أمرٍ ليس تحت وِلايتِه ويُبيِّنُ أخطاءه وظُلمَه؟
فأجاب بقوله :
*والله لا أدري لِمَ شُغِفَ النَّاس بمِثلِ هذا؟!
الأصل الشَّرعيّ أنَّ مَن ولِيَ أمراً مِن أُمور المُسلِمِين الوِلايةَ العامة يجبُ أنْ يُكفَّ اللِّسان عنه، هذا الأصل.
فمَن كان وليًّا لأمرِ بلدٍ مِن بلاد المُسلِمين فإنَّه يجبُ كفُّ اللِّسان عنه.
وهذا القول الَّذي أصبح يُدندنُ به بعضُ النَّاس!
ولأكُنْ صريحاً وواضحاً، بعد أنْ تولَّى الإخوان في مصر! مع أنَّه مِن قبل ما كان أحدٌ يقول هذا! وفيه حُكَّام في البُلدان بعضهم سيِّئٌ جداً، لكن كان ينبغي كفُّ الألسنة عن الحُكَّام لِما في ذلك مِن الفساد.
ثُمَّ أصبح بعضُ النَّاس يُدندن على قضيَّة أنَّه إذا لم يكن وليّ أمر في بلادي!
طيَّب، هذا يفتح الذَّريعة للطَّعنِ في ولاة الأمرِ.*
أنا في الكويت أُريد أنْ أطعن في وُلاة أمري، أطلبُ مِن ناسٍ في مصر أنْ يطعنوا في وليِّ الأمر، وأنا في السُّعوديَّة أُريد أنْ أطعن في وُلاة أمري، أطلبُ مِن ناسٍ في الكويت أنْ يطعنوا في ولي الأمر، وأقول: هؤلاء ما يحرُمُ عليهم أنْ يطعنوا في وليِّ الأمر!*
فهو ذريعة إلى ما حرَّم الله، ومِن جهة أُخرى هو ذريعة إلى نشرِ الضَّغائنِ والحقد بين المُسلِمين.
فإذا تناول أهلُ الكويت وليَّ الأمر في الإمارات، وتناول أهلُ الإمارات وليَّ الأمر في السُّعوديَّة؛ سيتولَّد مِن هذا حقدٌ بين الشُّعوب، ويُصبحون يتبادلون السَّبَّ والشَّتمَ، ثُمَّ ينتقل الأمر إلى سبِّ الشُّعوب بعضها لبعضٍ؛ وفي هذا فسادٌ عظيم.
ولذلك نحن نقول يجبُ علينا أنْ نتمسَّك بالأصلِ الشَّرعيّ، وهو أنَّ مَن ولِيَ أمرً بلدٍ مِن بُلدان المُسلِمِين ينبغي علينا أنْ نكُفَّ عنه الألسِنة، ومَن كان عنده نصيحة فينبغي أنْ يُوصِلها بالأصل الشَّرعي.
طبعاً هُناك فرق بين الكلام على ولِيِّ الأمر والكلام عن جماعة، مثلاً كوْن الإنسان يتكلَّم عن جماعة الإخوان المُسلِمين، ويُبيِّن أخطاء هذه الجماعة ومُخالَفاتِها الكثيرة للأُصول الشَّرعيَّة؛ هذا لا يُمنعُ مِنه.
لكن أنْ يُؤتى بوليِّ الأمر في بلدٍ مِن البُلدان، ويُجعل يُتحدَّثْ فيه؛ لأنَّا لم نرض عن منهجه أو نحو ذلك،
لا شكَّ أنَّ هذا مُخالِفٌ للأُصول الشَّرعيَّة، واللهُ أعلم.[19]

4 ـ سئل الشيخ سالم بامحرز حفظه الله مانصه : هل تركيا بلد مسلم وهل رئيسها مسلم لأننا نسمع بعض الأخوة يتكلمون فيه ويطعنون فيه علناً ؟
فأجاب بقوله :
بارك الله فيك تركيا بلد إسلامي معروف وعلى السنة وهم على المذهب الحنفي وليسوا برافضة ولا بعلويين وان كان عندهم من البدع الصوفية ماالله به عليم ولكن هم على الملة الإسلامية ورئيسهم أردوغان معروف أنه رجل مسلم وهو إخواني من الإخوان المسلمين ولا يجوز لأحد أن يطعن في أولياء أمور بلاد المسلمين كائناً من كان فمن طعن في ولي أمر دولة غداً سيطعن في ولي أمره ولا يقبل بذلك وبطعنه يؤجج الفتن في بلاد المسلمين ويثير القلاقل هذا لا يجوز وما يفعل ذلك إلا أهل الشر والذين ما ظبطوا قواعد السنة وأصول أهل السنة فالحذر الحذر من أن تطعن في ولي الأمر في بلادك وفي غير بلادك لكل بلاد حرمة فلا ينبغي أن تعرض او تتكلم أو تعلق أو تذم ولي أمر لأي دولة من دول المسلمين فهذا من الخيانة في حق تلك البلاد المسلمة وفي أهلها وإثارة فتن وقلاقل نسأل الله لكم الهداية والله المستعان. اهـ

5 ـ وسئل الشيخ خالد بن عبدالرحمنحفظه الله مانصه : هل يجوز للمسلم أن ينتقد ولي أمر مسلم فى بلد غير بلده ؟
فأجاب بقوله :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
هذه من المسائل التى أصبحت مُثارة الآن بين كثير من الشباب وصورة المسألة كما تقدم فى سؤال فضيلة الشيخ العنجري حفظه الله أن يكون الرجل تحت ولاية حاكم مثلا كالكويت فهو يرى أن مناصحة السلطان فى الكويت يجب أن تكون سرا ويجب أن يتلطف فى النصح ويجب أن يكون الأمر بينه وبين ولى أمره هنا هكذا ولكنه ربما ينظر إلى أن تلك البلد الأخرى فى بلد أخرى فى حاكم أخر يظهر معايبه ولا يرى أن يستعمل معه فى باب النصح ما يستعمل مع ولى أمر بلده ، هذه صورة المسألة.
والذى أقوله أولا: الذى صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما صححه الإمام الألباني وغيره من حديث ابن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن ينصح لذي سلطان فليأتيه سرا ولا يبده علانية وليأخذ بيده وليخلوا به ولينصحه فإن قبل منه وإلا فقد أدى ما عليه ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وأخرج أيضا أحمد فى المسند وصححه الألباني فى تعليقه على السنة لإبن أبي عاصم من طريق ابن أبي أوفى أن عبدا له أبقا فقال أين ذهب ؟ قالو لحق بالخوارج ، فقال أبعده الله ، فقال رجل من القوم يا صاحب رسول الله إن السلطان يفعلوا كذا وكذا وكذا فقال له ابن أبي أوفى (وهو فى مسند الإمام أحمد) قال ايتيه في منزله فانصحه .
فهذا يدل على أمر عظيم أن ما يتعلّق بنصيحة السلطان جاءت فيه الدلالة دلالة عموم فإن قوله عليه الصلاة والسلام من أراد أن ينصح لذي سلطان وهذه صيغة من صيغ العموم ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن النصح مع ولاة الأمر يجب أن يكون سرا ويجب أن يراعى فيه هذا الباب لدرء مفاسد إظهار معائب الولاة .
كذلك إذا نظرت إلى فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأمر كما قال العلامة الفقيه ابن العثيمين رحمه الله أن تعدد الولايات منذ زمن ما حصل ما بين الصحابة رضى الله عنهم فى تلك الحروب التى وقعت ، رضى الله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أجمعين وحصل هناك تعدد ولايات في زمن الصحابة واستمر الأمر يقول ابن العثيمين إلى وقتنا هذا .
وأنت تلحظ مع تعدد الولايات ومع حصول المنازعات بين السلاطين وهذا يحكم بغداد وهذا يحكم المدينة إلى آخره فإنك تجد أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعرضون لمعائب السلطان سواء كان هذا السلطان هو الذى في عنقهم بيعة له أو كان عند وجود الخلاف بعد اجتهاد من بعض الصحابة رضى الله عنهم في مثل هذا الأمر.
لذلك ترى أن الصحابة رضى الله عنهم ما كانوا يعرضون لمعايب السلطان وما كان يعرضون لمعايب الولاة وما كانوا يظهرونها سواء هؤلاء الولاة الذين يحكمون بلدهم ومناطقهم أو الولاة الذين فى موضع آخر كل هذا من باب درء المفاسد ومن باب تعظيم أمر السلطان حسبما دل عليه الشرع كما جاء فى الصحيحين من أثر أسامة بن زيد فقيل له ألا تدخل على هذا الرجل فتكلمه ، فقال إنكم ترون أني لا يكلمه حتى أريكم أني أكلمه إني لأكلمه فيما بين وبينه ولا أحب أن أكون أول من يفتح باب شر.
كذلك إذا لحظت في كتب المصنفين من علمائنا حينما ألفوا كتب السنة وتكلموا عن السلطان وتكلموا عن باب النصح للسلطان فتجد أن علمائنا حتى مع تعدد السلاطين في كثير من الأزمنة فإنهم كانوا لا يعرضون لمعايب السلطان سواء كان ذاك الشيطان مما له في عنقه بيعه أو كان سلطان آخر قد غلب أو تمكن فى ناحية أخرى وهذه كتب السلف كما هي ظاهرة كما هي جلية ما تجد فيها أنهم يعرضون للسلاطين أو للأمراء الآخرين مما ليس لهم في عنقه بيعة .
كذلك إذا لحظت ما عليه علماء زمنك فإن الله جل وعلا قال :
﴿ومنْ يشاقِقِ الرّسول مِنْ بعْدِ ما تبيّن له الْهدىٰ ويتّبِعْ غيْر سبِيلِ الْمؤْمِنِين ﴾[ النساء:115]
وسبيل المؤمنين على رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم سبيل المؤمنين في كل وقت هم علماء دهرك من علماء السنة كما قال الإمام البخاري لا تزال طائفة من أمتي قال أبوعبدالله وهم أهل العلم
فإذا لحظت علماء زمانك الإمام ابن باز ، الألباني ، ابن العثيمين ، الفوزان ، ربيع ، الشيخ عبيد ، علماء السنة فى أقطار الدنيا فى زمنك هذا ما تجد أن علمائنا يظهرون معايب الولاة الذين هم ولاة على بلد غير بلدانهم .
وهذا كله معناه أن الذى جر عليه عمل أهل العلم قديما وحديثا والذى هو في كتب السلف أنهم يراعون هذا الجانب مراعاة عظيمة.
هذا من ناحية النصوص ومن ناحية عمل السلف ومن ناحية عمل أهل العلم.
ثم إذا نظرت إلى المعنى المعقول من مقاصد الشريعة فى هذا الباب كما سئل العلامة الإمام (كما يقول الشيخ ربيع الشيخ عبيد إمام في السنة) وقد وجه له هذا السؤال فكان من ضمن إجابته قال: إن مراعاة المعنى والمفسدة في هذا لا تختلف فيما يتعلق بحاكم بلدك أو بحاكم غير بلدك فإن المفسدة الناتجة من الطعن على ولى أمرك أنت هي هي بعينها المفاسد التي تنتج حين تتكلم عن ولاة الأمر مما ليس لهم في عنقك بيعة.
هذا معنى كلام الشيخ عبيد حفظه الله .
لذلك قلت تصورا في هذا لو جاء الآن عشر من المصريين يطعنون فى ولى أمر هذه البلد ويذكرون معايبه ويقولون هو كذا هو كذا هو كذا وجاء عشر من الكوتيّين يتكلمون فى معايب ولى أمر المصريين حينئذ ماذا الذى سينتج وما الذى سيحصل ؟
أليس سينتج عن ذلك أن توغر الصدور وأن يثار الناس على ولاتهم سواء كان أؤلئك المصريون ليس لحاكم الكويت بيعة فى عنقهم وسواء كان أؤلئك الكوتيون ليس فى عنقهم بيعة لهذا الحاكم الذى فى مصر.
إذا معنى ذلك أن الدندن وتبني هذه المسألة أن لك أن تنتقد حاكما غير حاكمك وما أشبه ذلك هو فى التحقيق ضرب لباب إعتبار الشرع لإغلاق باب المفاسد وقد جاء فى الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه أو أن يسب الرجل والديه قالوا وكيف يسب الرجل والديه قال: يسب الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه .
فراعى النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الذى سب الرجل فتسبب فى أن يسب أمه وأباه أنه صار هو الساب.
ففتح هذا الباب هو فتح باب شر عظيم وإثارة الناس على ولاة الأمر ، نسأل الله العافية والسلامة[20].اهـ
هذا وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

كتبه : عبد الحميد الهضابي.
21 / 08 /1438
مكة المكرمة


الحواشي :
[1] ـ عن أبي إسحاق الفزاري، قال: سمعت سفيان، والأوزاعي، يقولان: «إن قول المرجئة يخرج إلى السيف»[السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 217)]
وعن أيوب، عن أبي قلابة، قال: «ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف»[سنن الدارمي ( 100 )]
وعن أيوب أيضاً، عن أبي قلابة، قال: «*إن أهل الأهواء أهل الضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار، فجربهم فليس أحد منهم ينتحل قولا أو قال: حديثا فيتناهى به الأمر دون السيف. وإن النفاق كان ضروبا، ثم تلا: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ*﴾، ﴿*وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾ فاختلف قولهم واجتمعوا في الشك والتكذيب، وإن هؤلاء اختلف قولهم واجتمعوا في السيف، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار».[سنن الدارمي ( 101 )]
قال أيوب عند ذا الحديث أو عند الأول: «وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب*يعني:أبا قلابة».
وكان أيوب يسمي أهل الأهواء كلهم خوارج، ويقول: «إن الخوارج اختلفوا في الاسم، واجتمعوا على السيف»[شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 162)]
وقال الإمام البربهاري: «واعلم أن الأهواء كلها ردية، تدعو كلها إلى السيف».[شرح السنة ( 146 )]
وعن عنبسة ابن سعيد الكلاعي قال: «ما ابتدع رجل بدعة إلا غلّ صدره على المسلمين واختلجت منه الأمانة» قال نعيم: فسمعه مني الأوزاعي فقال: أنت سمعته من عنبسة، قلت: نعم. قال: «*صدق لقد كنا نتحدث أنه ما ابتدع رجل بدعة إلا سُلب ورعه».[ذم الكلام وأهله (5/ 126)]
وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: «هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة: اثنتان وسبعون هالكة، كلّهم يبغض السلطان، والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان».[قوت القلوب ( 2 / 209 )]
[2] ـ "العقد المنضد الجديد"(1/89)
[3] ـ قال ابن القيِّم -رحمه الله- : لا يلزم ذلك ؛ فقد يكون الشيء مُباحاً ، بل واجباً ، ووسيلته مكروهة، كالوفاء بالطاعة المنذورة : هو واجب ، مع أن وسيلته ، وهو النذر مكروه منهي عنه ، وكذلك الحلف المكروه مرجوح ، مع وجوب الوفاء به أو الكفارة ، وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه . ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة ، وهذا كثير جداً.
فقد تكون الوسيلة متضمّنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها ، وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه.
[4] ـ "تفسير ابن كثير"(3/315)
[5] ـ تيسير الكريم الرحمن"(ص: 268 ـ 269)
[6] ـ "مجموع الفتاوى"(30 / 136)
[7] ـ "الإستقامة"(1/288)
[8] ـ "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"(1/200)
[9] ـ *أخرجه مسلم (2589)
[10] ـ أخرجه مسلم (2606)
[11] ـ "منهاج السنة النبوية" (4/343)*
[12]أخرجه مسلم ( 55 )
[13] ـأخرجه أحمد في (3 / 403 – 404 )، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/ 521). وصححه الألباني في ظلال الجنة (507).
[14] ـ "حاشيته على مسند الإمام أحمد" (24/ 50):
[15] ـ أخرجه أحمد في المسند (4/382) وابن أبي عاصم في السنة (424رقم2905) . وحسنه الألباني في "ظلال الجنة" (424) .
[16] ـأخرجه البخاري (3267) ومسلم (2989).
[17] ــ "سير أعلام النبلاء" (3|512)
[18] ـ http://ar.miraath.net/fatwah/5526
[19] ـ http://www.sahab.net...howtopic=143247
[20] ـ من محاضرة بعنوان: "ندوة منازعة ولى الأمر"

المزيد من المعلومات
تحذير أولي الألباب من مخالفات محمد راتب النابلسيّ للسّنة والكتاب –الحلقة الرابعة-

تحذير أولي الألباب من مخالفات محمد راتب النابلسيّ للسّنة والكتاب –الحلقة الرابعة-

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
 فهذه الحلقة الرابعة في مناقشة محمد راتب النابلسي في بعض المسائل العقدية التي جانب فيها الصواب، ووافق مذهب الجهمية والمعتزلة ومخانيثهم من الأشاعرة في نفيه صفة من صفات الله جل وعلا الذاتية وهي صفة"الصورة".
وهكذا أيضا منع السؤال عن الله جل وعز بــ "أين هو ؟"، على طريقة المتكلّمين.
 وأيضا يقرّر أن في آيات الصفات لا نرجع إلى الكتب التي دونت أقوال الصحابة ومن بعدهم في تأويلها وتفسيرها ،من كتب التفسير، وإنما المرجع في ذلك هو العقل.
 وأيضا يستشهد بفرية افتراها ابن بطوطة المغربي على شيخ الإسلام ومحدث الأنام ابن تيمية رحمه الله.
 وأيضا يقرّر أن الإنسان هو أول المخلوقات في هذا الكون ،والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
 ومما أحببت ذكره عن هذا الرجل الذي اغتر به كثير من الناس عموما ، وإخواننا من أهل سوريا خصوصا أن المسجد الذي كان يصلّي ويدرس فيه ، الصلاة فيه باطلة ،وذلك لأن فيه قبر جدّه عبد الغني النابلسي النقشبنديّ القادريّ الصوفي ، وقد رأيت ذلك بأم عيني لما كنت بدمشق.
 قال محمد راتب النابلسي عفا الله كما في "موقعه": "مرة أحد الخطباء نزل درجةً وقال: إن ربَّكم ينزل إلى السماء الدنيا كما أنزل أنا، هذا تجسيم، هذا كفر.
 إذاً: مذهب التجسيم باطل، ومذهب التعطيل باطل، أن تعطل هذه الآيات، آيات من كتاب الله، فلذلك هناك آياتٌ تُدركها بلا تفسير، فلا تحتاج إلى تفسير الزمخشري، ولا إلى تفسير الطبري، ولا إلى تفسير القرطبي، ولا إلى تفسير ابن كثير، ولا إلى مفسِّر حديث، ولا إلى قديم".
قلت :
 أولا : هذا الكلام من الجهل بمكان ، فهو يهذي بما لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري ، لأن كلامه يلزم منه إلغاء فهم الصحابة ،وعدم الرجوع إلى ماتعلّموه من النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الصفات .
 فالواجب على الذي يريد الخير والفلاح، والفوز والنجاة أن يقدم فهمهم على فهمه ، وطريقتهم على طريقته وهكذا في كل أبواب الدين.
 والذي لا يعرف قدر نفسه أنى له أن يعرف قدر غيره، فالسلف الصالح على رأسهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لا يجوز التنكّب على فهمهم لدين الله تعالى ، ومخالفة هديهم وطريقتهم.
 فإن الذي يخالف سبيلهم يضلّ عن سواء السبيل ، ويتّبع غير سبيل المؤمنين ،ومتوعّد بنار جهنم وبئس القرار، كما قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرسبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } (النساء : 115) ، وعلى رأس سبيل المؤمنين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكما قال ابن مسعود الهذلي رضي الله عنه : من كان مستنَّاً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ، كانوا خير هذه الأمة، أبرُّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد ، كانوا على الهدى المستقيم[1]،
 والنصوص الشرعية التي توجب الرجوع إلى طريقة ومسلك وفهم الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم لا تعدّ ولا تحصى.
 فكتب التفسير لا يستغني عنها أيّ أحد ، لأن فيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم الشارحة والمبيّنة والموضحة لكلام الله تعالى، وفيها أقوال الصحابة رضي الله عنهم في بيان معاني كلام الله تعالى.
 فتقديم العقل على النقل أمر خطير جدّ خطير ، وهو من أعظم أسباب الانتكاسة ،والغيّ والضّلالة ، يورد صاحبه في أمور لا تحمد عقباها.
 فالنابلسي يقرّر أن آيات الصفات لا نرجع في تفسيرها وتأويلها إلى الرعيل الأول ، ولا من نقل إلينا كلامهم وفهمهم لكتاب الله تعالى ، من كتب التفسير، وإنما نرد ذلك لعقولنا ، والله المستعان ، والكلام طويل ويطول في هذا المسألة.
قوله :مرة أحد الخطباء نزل درجةً وقال: إن ربَّكم ينزل إلى السماء الدنيا كما أنزل أنا، هذا تجسيم، هذا كفر.
قلت :
أولا : قاتل الله الكذب ،وهذا من إفك وفجور ابن بطوطة المغربي حيث افترى[22] على شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله أنه نزل درجة من منبره ونحو ذلك مما جاء من فجوره وبهتانه.
والرد على هذه الافتراء والبهتان هو مايلي :
1 ـ ابن بطوطة دخل دمشق في يوم التاسع من شهر رمضان سنة 7266 هـ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية حينئذ مسجوناً بقلعة دمشق منذ السادس عشر من شعبان سنة 726 هـ، ولم يخرج رحمه الله من السجن إلا محمولا على الأكتاف وسبب موته رحمه الله خصومه وأعداؤه من المفوّضة والمعطّلة والمؤوّلة لصفات الباري جلّ جلاله .
 فلم يستطيعوا أن يجابهوه رحمه الله بالحجة والبيان لجؤوا حينئذ إلى وشايته للحكام وألبّوا عليه السلطان بالكذب والفجور والبهتان، وأرادوا تشويه سمعته بمثل هذه الأباطيل والأراجيف ،ولهم سلف في ذلك وبئس السلف ، وهم أعداء الأنيباء والمرسلين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم.
 وإذا عرف السبب بطل العجب ، وكل العداوة ترجو مودّتها إلا عداوة من عاداك في الدين ، فشيخ الإسلام رحمه الله يحمل عليه الغلّ والحقد الدفين كل مبتدع خلفي ، بخلاف السلفي فإنه يحبه ويواليه ويدافع عنه بحقّ لأنه كان على الحق يسير لا غير.
22 ـ لم يذكر هذا البهتان والفجور غير ابن بطوطة ، فلو كان صحيحا لما انفرد هو بذكر تلك الفرية التي افتراها.
33 ـ كتب شيخ الإسلام رحمه الله وماخلّفه من التراث هو الحكم في ذلك، فهو رحمه الله يحارب التجسيم وغير ذلك من المعتقدات الباطلة ، وبين رحمه الله عقيدته السلفية في غير ما موضع من كتبه ومصنفاته ، بخلاف ما افتراه عليه ابن بطوطة ، وإليك أخي القارئ بعضا من كل ، وقليل من كثير من كلامه رحمه الله في ذلك.
 قال شيخ الإسلام رحمه الله : كما شاء أن ينـزل، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهّم أنه ينـزل عن مكانه، كيف وكيف[3].
وقال في موضع آخر: إن الله - تعالى - ينـزل كما شاء، فليس لنا أن نتوهّم كيف وكيف[4].
 وقال رحمه الله : العلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تُعلم كيفية صفة الموصوف ولم تُعلم كيفيته؟![5]
 ولو أردت أن أستطرد في النقولات عنه رحمه الله في ذلك لطال بنا المقام ولكثر النقل والكلام ، فحسبك بما نقلت من كلامه رحمه الله ، ليتبيّن لك مدى حقدهم الدفين عنه رحمه الله لأنه فضحهم ، وكشف خبثهم وسوء طوّيتهم.
قال محمد راتب النابلسي عفا الله عنه كما في "موقعه": الله عز وجل واجب الوجود ما سواه ممكن الوجود سميع لكل الموجودات ، كل ما سواه يسمعه ، دون حاسة كبني البشر دون آلة كبني البشر ، هناك آلة تلتقط الأصوات ، أو هناك حاسة تسمع الأصوات ، الله جل جلاله ، ليس كمثله شيء ، وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، سميع من دون حاسة أو آلة ، سميع لمن ؟ لكل الموجودات على الإطلاق .
 وذكر أثرا منكرا مكذوبا عن علي رضي الله عنه وأقرّه وفيه : "الربُ ربّ والعبدُ عبد, ولا نسبة بينهما، ليس بمتجزئ, ولا بمتبعضٍ, ولا صورةٍ, ولا متلونٍ, ولا يسألُ عنه بأين هو؟, لأنه خالقُ المكان، ولا بمتى ؟ هو لأنه خالقُ الزمان".اهـ
قلت :
 أولا : أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية ،والطائفة المنصورة يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه العزيز، وما أثبته له رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في سنته المطهرة إثباتا مفصّلا ، من غير تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف، كما قال تعالى: { وَهُوَ السَّمِيعُ البصِيرُ }(الشورى: 11)
والله متّصف بجميع صفات الكمال والجلال، ومنزّه عن جميع صفات العيوب والنقصان.
 وينفون ما نفاه الله تعالى عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم نفيا إجماليا في الغالب كما قال تعالى : { ليس كمثله شيء }(الشورى: 11)
وقال تعالى : { هل تعلم له سميا } (مريم : 655)، وقوله تعالى : { ولم يكن له كفوا أحد } (الإخلاص : 4)
 أي : الإثبات المفصل ، والنفي المجمل، وهذا النفي يقتضي إثبات ما يضاده من الكمال وبسط ذلك ليس هذا موضعه وبيانه.
 فلم يرد مثلا في آية ولا في حديث فيه : ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا متلون والطعم إلى غير ذلك من النفي المفصّل.
 بخلاف الإثبات المفصّل وهذا الذي لم يسلكه النابلسي كم نقلنا كلامه وإقراره بفصّه ونصّه في ذلك.
 وما ذكرناه آنفا على اختصاره النابلسي يخالفه ، حيث نفى الله عن الله نفيا تفصيليا ،ويا ليته توقّف عند ذلك ، بل ألحد في صفات الباري جلّ جلاله ، حيث أنكر ماأثبته الله لنفسه من صفة الصورة اللائقة به سبحانه.
 ومما يجب التنبيه عليه في مثل هذا المقام أن الألفاظ المجملة التي يستعملها أهل البدع، والتي أحدثها أهل الكلام التي تحتمل حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا ،وهي الألفاظ المشتركة بين معانٍ سليمة ، ومعانٍ غير ذلك ،كالجهة ، والجسم ، والعرض ,ونحو ذلك، فإن أهل السنة في ذلك يسلكون مسلكا رشيدا مرضيا سلفيا عليه أثارة من علم ،وهو: أنهم لا يثبتونها، ولا ينفونها في آن واحد ، لأنه لم يرد نفيها، ولا إثباتها في الكتاب والسنة.
 ويستفصل من قائلها، فإن أراد مثبتها معنى صحيحا يُوافق على ذلكم المعنى ، ولم يُوافق على استعمال ذلكم اللفظ، ويجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا إثباتا من استطاع إلى ذلك سبيلا.
 لأن أهل البدع في استعمالهم لتلكم الألفاظ المشتركة قصدهم في ذلك التّوصل إلى نفي الصفات عن الله تعالى بحجّة تنزيهه سبحانه عن النقائص والعيوب.
وأما إذا كانت الألفاظ لا تحتمل إلا كمالا ومعنى صحيحا كــ"الذات[66]" و "بائن" ، ونحو ذلك، فلا مانع حينئذ من إيراده ،كما ذكر ذلك غير واحد من أئمة الإسلام ،لأنه يجوز في باب الإخبار عن الله تعالى مالا يجوز في باب أسمائه وصفاته جلّ وعزّ.
فلفظة: "بذاته"، أي: أن الله مستو على العرش حقيقة وأن الاستواء صفة له.
 ولفظة : "بائن"، يراد بها إثبات العلوّ حقيقة، والردّ على زعم من قال: إن الله في كل مكان بذاته.
 وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله طريقة السلف في التّعامل مع المصطلحات في الألفاظ عموما حيث قال : فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل ويراعون أيضاً الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ومن تكلم بلفظ مبتدع يحمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة أيضاً وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة ورد باطلاً بباطل وهكذا .[7]
 وقال رحمه الله: ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به - سواء عرفنا معناه أو لم نعرف - لأنه الصادق المصدوق؛ فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة متفق عليه بين سلف الأمة، وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده. فإن أراد حقا قبل، وإن أراد باطلا رُدَّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا، ولم يُردَّ جميع معناه، بل يوقف اللفظ ، ويفسر المعنى.[8]
وقال رحمه الله كما في "منهاج السنة"(2/527 ـ 5288): وأمّا لفظ : "الجسم" و"الجوهر"و" المتحيّز" والجهة ونحو ذلك، فلم ينطق كتاب ولا سنّة بذلك في حقّ الله لا نفياً ولا إثباتاً، وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت، فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفياً ولا إثباتاً.اهـ
وقال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"(3/811) :ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائض بهذه الطريق طريقا فاسدا لم يسلكه احد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا اثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك لانها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا
 ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ماهو من هذا النوع بل هذا هو من الكلام المبتدع الذى أنكره السلف والأئمة.اهـ
الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات الصورة لله جل جلاله:
 عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ ناسًا قالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : يا رسول الله، هل نَرَى ربَّنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هل تضَارون في رؤْية القمر ليلةَ البدْر؟، قالوا: لا يا رسول الله... وفيه: يجمع الله الناسَ يوم القيامة، فيقول: مَن كان يعبد شيئًا فلْيتبعه، فيَتبع مَن كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمرَ القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيتَ الطواغيت، وتَبقى هذه الأمَّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله - تبارك وتعالى - في صورة غير صورته التي يَعْرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفناه، فيأتيهم الله - تعالى - في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربُّكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه... الحديث.[9]
 وفي لفظ : وإنا سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا قال فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم.[10]
 قال شيخ الإسلام رحمه الله : إن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف، وعند هؤلاء هو كل آتٍ، وما في الدنيا والآخرة، وأما أهل الإلحاد والحلول الخاص، كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو علي أو بعض المشايخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع؛ فقد يتأوّلون أيضاً هذا الحديث كما تأوله أهل الاتحاد والحلول المطلق؛ لكونه قال: فيأتيهم الله في صورة.
 لكن يقال لهم: لفظ :"الصُّورة" في الحديث –يعني: رحمه الله: حديث أبي سعيد- كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله مختصة به؛ مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصـير، ومثل خلقـه بيديه واستوائـه على العرش ونحو ذلك. [11]
 وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت ربي في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت : لا أدري فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ثم قال : فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات والدرجات قال : وما الكفارات ؟ فقلت : إسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال : فما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلاة بالليل والناس نيام قال : قلت : ما أقول ؟ قال : قل : اللهم إني أسألك عملا بالحسنات، وتركا للمنكرات ،وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم فاقبضني إليك غير مفتون.[12]
 قال شيخ الإسلام رحمه الله : لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات ، التي قد يسمى المخلوق بها ، على وجه التقييد ، وإذا أطلقت على الله اختصت به ، مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير ، ومثل خلقه بيديه ، واستواءه على العرش ، ونحو ذلك.[13]
 وقال رحمه الله : وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به ، فلابد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها ، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها.[14]
 وقال ابن قتيبة رحمه الله : الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين ، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن ، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن ، ونحن نؤمن بالجميع ، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد.[15]
وقال محمد راتب النابلسي كما في "موقعه" : (( أنت المخلوق الأول في هذا الكون ، المخلوق المكرّم ، أنت مكلّفٌ بالأمانة ، مكلّفُ بهذه النفس التي بين جنبيك ))
أولا :
 القول بأن الإنسان هو أوّل المخلوقات هو قول محدث لم يقل به أيّ أحد من السلف، فضلا عن الصحابة رضي الله عنهم ، فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا :
 اختلف أهل العلم في أول مخلوق في هذا الكون أهو العرش ؟،أو القلم ؟ على قولين مشهورين ، والراجح منهما القول الأول-أي: العرش- ، وبه قال ابن تيمية و
قال ابن القيم رحمه الله كما في "النونية" :
والناس مختلفون في القلـم الذي*** كُتِب القضـاء به من الدّيّان
هل كان قبلَ العرش أو هو بعده *** قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قـبلُ لأنـّـه*** قبلَ الكتابة كان ذا أركانِ
وكتابـةُ القلمِ الشريف تعقّبتْ *** إيجادهُ من غيرِ فصلِ زمانِ
 علّق شيخنا شيخنا صالح الفوزان حفظه الله على هذه الأبيات بقوله : والصحيح أن العرش قبل القلم، وأما الأولية للقلم فهي بالنسبة للكتابة، أي: أنه من حين خلقه الله قال له: اكتب، فالكتابة مقارنة لخلق القلم، هذا معنى الحديث، وليس معناه: أنه قبل العرش.
 فقوله ﷺ: "إن أول ما خلق الله القلم: قال له: اكتب" المراد بالحديث: أن الكتابة مقارنة لوجود القلم وليس معناه:أن القلم قبل العرش، بل العرش قبله لقوله ﷺ في آخر الحديث -حديث عبدالله بن عمرو الذي تقدم-: "وكان عرشه على الماء" فهو مطابق للآية الكريمة.[16]
 قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:أول ما خلق الله من الأشياء المعلومة لنا هو العرش ، واستوى عليه بعد خلق السماوات، كما قال - تعالى -: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا )[17] "
 وقال العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله : القلم الذي كَتَبَ الله عز وجل به القَدَرْ كُتِبَ به ما يتعلق بهذا العالم؛ يعني: كُتِبَ به القَدَرْ إلى قيام الساعة، كما جاء في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن عمرو أنّ النبي ﷺ قال: «قدر الله مقادير الخلائق –يعني: كتب مقادير الخلائق- قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» فالقلم متعلقة كتابته في اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى قيام الساعة.
المسألة الثالثة:
 أنّ القلم لـمَّا خَلَقَهُ الله عز وجل أمره أن يكتب، فجَرَى بما هو كائِنٌ إلى قيام الساعة، كما جاء ذلك في حديث عُبادة بن الصامت الذي رواه أبو داوود والترمذي والإمام أحمد وجماعة بألفاظ متقاربة، وفيه أنَّ النبي ﷺ قال: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: أكتب، فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة».
وهذا لفظ أبو داوود وغيره.
 وجاء أيضا بلفظ: «أول ما خلق الله القلم قال له: أكتب. فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة».
 ولهذا اختلف العلماء هنا في هل هذا الحديث على ظاهره في أنَّ أول المخلوقات القلم أو أنَّ هذا الحديث له معنىً آخر؟ وجعلوا هذا الحديث وحديث عبد الله بن عمرومن الأحاديث التي ينبغي الجمع بينها وهذا هو المسألة الرابعة وهو الجمع ما بين الحديثين.
المسألة الرابعة:
 تلحَظُ أَنَّ حديث عبد الله بن عمرو فيه قال: «قدر الله مقادير الخلائق» ولما قَدَّرَ -يعني كتب- كان عرشه على الماء.
 وفي حديث عبادة قال: «إن الله أولما خلق الله القلم فقال له اكتب» فيقتضي حديث عبادة أنَّ الأمر بالكتابة كان مُرَتَّباً على ابتداء خلق القلم، وتقدير القَدَر كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة والعرش على الماء.
 فدل حديث عبد الله بن عمرو على وجود تقدير وعلى وجود العرش -خلق العرش- وعلى خلق الماء.
 ودلَّ حديث عبادة على أنَّ خَلْقْ القلم تَبِعَهُ قول الله عز وجل للقلم:" اكتب" فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة، وهذا الترتيب جاء في حرف الفاء الذي يدل في مثل هذا السياق على أنَّ هذا بعد هذا دون تراخٍ زمني؛ ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة في الجمع بين هذين الحديثين هل القلم هو أول المخلوقات أم العرش خُلِقَ قبله؟ على قولين للسلف فمن بعدهم:
القول الأول: إنَّ العرش قبل القلم وكذلك الماء قبل القلم.
والقول الأول هو قول جمهور السلف كما نسب ذلك إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
 القول الثاني: أنَّ القلم هو أول المخلوقات والعرش والماء بعد ذلك وهو قول طائفة من أهل العلم.
الترجيح ما بين هذين القولين هو أنَّ الأحاديث يجب الجمع بينها وعدم تعارضها.
 وحديث عبادة بن الصامت في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب» يقتضي أنَّ الكتابة كانت بعد خلقه.
وحديث عبد الله بن عمرو يقتضي تقدم وجود العرش والماء على حصول الكتابة.
فدلّ هذان الحديثان على أنَّ العرش والماء موجودان قبل، وأنَّ خلق القلم تبعته الكتابة.
ولهذا نسبه شيخ الإسلام إلى جمهور السلف بأنَّ القلم موجود بعد العرش والماء.
 وهذا تدل عليه رواية «أَوَلَ ما خلق الله القلم قال له: اكتب» يعني: حين. «أَوَلَ» بمعنى حين.
«أَوَّلَ ما خلق الله القلم قال له: اكتب» حين خَلَقَهُ قال له: اكتب.
 وهذا هو معنى: «إن أَوَلَ ما خلقه الله القلم فقال له: اكتب» لأنَّ الجمع بين الروايات أولى من تعارضها.
 وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "التِّبْيَان" أنَّ قوله: «إن أَوَلَ ما خلق الله القلم» ورواية: «أَوَلَ ما خلق الله القلم» إما أن تُجعل جملتين أو جملة واحدة، وقد ذكر هذا النقل شارح الطحاوية فترجع إليه، وخلاصة البحث هو ما ذكرت لك من التقدير، فإن قوله: «إن أَوَلَ ما خلق اللهُ القلمُ» هنا برفع القلم يكون خبر (إنَّ)؛ يعني: إنَّ أَوَلَ الذي خلق الله، إن أَوَلَ المخلوقات القلمُ فقال له: اكتب.
وإذا كان أَوَّلْ المخلوقات فكيف يُفَسَّرْ مع حديث: «وكان عرشه على الماء» الذي ذكرته لك.
 فقوله: " إنَّ أَوَّلَ المخلوقات"، أو " أَوَّلَ ما خلق الله"، أو " أَوَّلَ الذي خلقه الله"، يُفهم على أنَّ القلم جرى بما هو كائن إلى قيام الساعة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
 فالقلم متعلّق بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، مُتَعَلِّقاً بما يحدث في هذا العالم المخصوص لا في مطلق الأشياء؛ ولهذا عُلِّقْ بأنه إلى قيام الساعة.
 فإذاً يُفهم لـمَّا كان تعلق الكتابة بهذا العالم الذي جرى التقدير عليه إلى قيام الساعة، يُفهم أنَّ القلم لـمَّا تَعَلَّقَ بهذا العالم كتابةً لِتَقْدِيرِهِ ولِقَدَرِهِ ولآجاله إلى آخره فإنه من هذا العالم؛ لأنّ العوالم أجناس والله عز وجل جعل لمخلوقاته أقدارا وأجناسا.
فإذاً يُفهم قوله: «إن أَوَّلَ ما خلق الله القلم» يعني من هذا العالم.
 فالقلم قبل السموات وقبل الأرض وقبل الدخان المتعلِّق الذي خُلِقَ منه السموات والأرض وكل ما يتصل بهذا العالم المرئي الـمُشاهَد، فالقلم هو أول المخلوقات أما العرش والماء فليسا مُتَعَلِّقَينِ بهذا العالم.
 فإذاً إعمال الحديثين مع ما يتّفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة واضح لا إشكال فيه، فيكون ذلك هو تقرير هذه المسألة.
 وقد لخّص ابن القيم المسألة في "نونيته" وبحثها مفصلاً في كتابه "التبيان في أقسام القرآن"، وفي غيره فقال في النونية رحمه الله:
والناس مختلفون في القلــم الذي *** كتب القضاء به من الدّيّـان
هل كان قبل العرش، أو هو بعده؟ *** قولان عند أبى العلا الهمذاني
والحـق أن العرش قبل لأنّـــه *** عند الكتابة كان ذا أركـان
وكتابـة القلــم الشريف تعقبت *** إيجاده من غير فصل زمــان
 وهذا القول كما ترى من تقريره مع دليله هو الصحيح، وهو الموافق لفقه النص وفقه خلق العالم وآثار فعل الله عز وجل في ملكوته، ومتّفق مع القول بأن الله عز وجل فعَّالٌ لما يريد، وأن قَبْلَ هذا العالم ثَمَّ عوالم أخرى، والله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، وأنّه ثَم أشياء أخرى بعد قيام الساعة، والقلم مُتَقَيِّدٌ بما خلقه الله عز وجل له، والله سبحانه له الأمر كله يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.[18]
 الشاهد : أن السلف اختلفوا في أوّل المخلوقات بين القلم والعرش ، واتفقوا أنه ليس الذي ذكره النابلسي-أي:الإنسان-، وعلى حسب علمي القاصر لم يقل بهذا القول الذي ذكره النابلسي أحد.
قال محمد راتب النابلسي :" ولا يسألُ عنه بأين هو ".
 قلت : هذا الكلام من أبطل الباطل ، وهو مذهب الجهمية ، والمعتزلة ومخانيثهم من الأشاعرة حيث حرّموا السؤال بــ"أين الله؟"، لأنهم لا يتوافق ما تبنّوه من المعتقد الفاسد في نفيهم استواء الله تعالى على عرشه ، بل بعضهم وصل غيّه وضلاله إلى تكفير من يشير بالسبابة إلى السماء.
 والسلف الصالح أجمعوا على إثبات صفة الإستواء لله تعالى على عرشه، وأنه بائن من خلقه ، مطلع عليهم لا تخفى منه خافية، وأن الله تعالى في جهة العلو فوق العالم، لا يحويه شيء، بل هو المحيط بكل شيء .
 وقد يتبادر إلى جلّ القرّاء حديث الجارية رضي الله عنها ،وهو ماثبت عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فعطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فعرفت أنهم يصمتوني ،فقال عثمان :فلما رأيتهم يسكتوني لكني سكت قال فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي وأمي ما ضربني ولا كهرني ،ولا سبني ثم قال: " إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس هذا إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ،قلت يارسول الله : إنا قوم حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإسلام ومنا رجال يأتون الكهان؟، قال : فلا تأتهم، قال: قلت ومنا رجال يتطيرون؟، قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدهم " قال :قلت ومنا رجال يخطون قال :" كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك ،قال: جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية إذ اطلعت عليها اطلاعة فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة ،فعظم ذاك علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقلت أفلا أعتقها ؟ قال :"ائتني بها ، قال: فجئته بها فقال " أين الله " ؟ قالت في السماء قال " من أنا " ؟ قالت أنت رسول الله قال " أعتقها فإنها مؤمنة " .[19]
 والجواب : أن النابلسي ومن حذا حذوه يرونه من الأحاديث الآحاد التي لا تقبل في باب الاعتقاد ، ولو قبلوه لابد من تأويله أو تفويضه .
 والمتأمّل في أهل البدع يرى فيهم العجب العجاب من التناقضات ، حيث يستدلون بأخبار وآثار لا زمام لها ولا خطام من الموضوعات والضعيفة ، ويردّون الأحاديث الصحيحة في الصحيحين فضلا عن غيرها من المصنفات والمعاجم التي دون أصحابها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم.
 وذكر الأدلة على ذلك ليس هذا موضع بسطه وذكره ،فالسلفيّ يكفيه دليل واحد ، والمنحرف الزائغ عن الحق لو أتيته بعشرات بل بالمئات الأدلة لا يرفع بها رأسا ولا يلقي لها بالا ، وإنما يردّها أو يأوّلها ويعطّلها عن معانيها.
لذا أحببت أن أنقل بعض كلام أهل العلم استئناسا بما نحن في صدده :
 قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله : معاني هذا الحديث واضحة يستغنى عن الكلام فيها وأما قوله: "أين الله فقالت في السماء" فعلى هذا أهل الحق لقول الله عز وجل: {أمنتم من في السماء} ولقوله: {إليه يصعد الكلم} ولقوله: {تعرج الملائكة والروح إليه} ومثل هذا في القرآن كثير.[20]
 وقال رحمه الله: وأمّا قوله في هذا الحديث للجارية: "أين الله؟" ، فعلى ذلك جماعة أهل السنّة، وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته، كلّهم يقول ما قال الله في كتابه.. . ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه، والله المستعان، ومن قال بما نطق به القرآن، فلا عيب عليه عند ذوي الألباب[21].
وقال الذهبي رحمه الله: ففي الخبر مسألتان:
إحداهما: شرعية قول المسلم: أين الله؟.
 ثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنّما يُنكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم[22].
 ويقول الإمام الدارميّ رحمه الله : ونكفرهم أيضاً لأنهم لا يدرون أين الله، ولا يصفونه بـ " أين؟ "، والله قد وصف نفسه بـ " أين؟ " فقال: } {الرحمن على العرش استوى} {وهو القاهر فوق عباده} ،و{إنّي متوفيك ورافعك إليّ}،و{ يخافون ربّهم من فوقهم} ...فهذا كلّه وصف بـ " أين؟ "؛ ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ " أين؟ " فقال للأمة السوداء: "أين الله؟ " فقالت: في السماء، فقال: "من أنا؟ " قالت: رسول الله، قال:" اعتقها فإنّها مؤمنة "؛ والجهمية تكفر به، وهذا من واضح كفرهم، والقرآن كلّه ينطق بالردّ عليهم، وهم يعلمون ذلك، أو بعضهم، ولكنهم يكابرون ويغالطون الضعفاء، فقد علموا أنّه ليس من حجة أنقض لدعواهم من القرآن.[23]
 وقال شيخ الإسلام رحمه الله : والجارية التي قال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم :أين الله؟ قالت: في السماء، قال: "اعتقها فإنها مؤمنة "، جارية أعجمية، أرأيت من فقهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنّما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى عليها، وأقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك وشهد لها بالإيمان، فليتأمّل العاقل ذلك يجده هادياً لـه على معرفة ربّه بالإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون المتشدقون ممّن سوّل لهم الشيطان وأملى لهم.[24]
 وقال رحمه الله : عن لفظة الجهة: فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظه أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل وإن أراد باطلا رُدّ...،
 فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة انها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلا في المخلوقات أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العلم مباين للمخلوقات
 وكذلك يقال لمن قال الله في جهة : أتريد بذلك أن الله فوق العالم ؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟ فان أردت الأول فهو حق وان أردت الثاني فهو باطل".[25]
 قال ابن القيم في: وقال في كتابه "الغنية"-أي:عبد القادر الجيلاني-:" أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن تعرف وتتيقن أن الله واحد أحد، ....وهو بجهة العلو مستو على العرش[26].
 وقال الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله: -بعد ذكره لحديث الجارية- : " ومن أجهل جهلاً ، وأسخف عقلاً ، وأضل سبيلاً ممن يقول : إنه لا يجوز أن يقال : أين الله"،أي: كما هو حال المتكلمين أهل الأهواء ، الذين يقولون : لا يسأل عنه بـ"أين".[27]
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.
09 / 06 /  1438

الحواشي :
[1] ـ أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/306،305).
[2] ـ ونص هذه الفرية هي ما يلي : «وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينـزل إلى سماء الدنيا كنـزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره بعد ذلك؛ فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك بذلك وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها: أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف لا يقصر في الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة» "رحلة ابن بطوطة"(1/95).
[3] ـ" الأصفهانية"(ص: 49)
[4] ـ "درء تعارض العقل والنقل"(2/24)
[5] ـ "مجموع الفتاوى"(5/131).
[6] ـ فائدة عزيز تشد لها الرحال أحببت نقلها وهي ما ذاله ابن القيم رحمه الله في بيان معنى الذات حيث قال رحمه الله في كتابه "بدائع الفوائد" (7/2ـ 8) نقلاً عن السهيلي اللغوي: "وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين، القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون: ذات البارئ هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته. ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في قصة إبراهيم: "ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" أخرجه البخاري 6/338 من حديث أبي هريرة ، وقول خبيب: "وذلك في ذات الإله"أخرجه البخاري 7/379.، قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} سورة آل عمران آية 28، 30.، وذلك غير مسموع، ولا يقال إلا بحرف "في" الجارة وحرف "في" للوعاء، وهو معنى مستحيل على نفس البارئ تعالى، إذا قلت: جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء. وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه كأنك قلت: هذا محبوب في الأعمال التي في مرضاة الله وطاعته، وأما أن تدع اللفظ على ظاهره فمحال.
وإذا ثبت هذا فقوله في ذات الله أو في ذات الإله إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله، فذات وصف للديانة، وكذلك هي في الأصل، موضوعها نعت لمؤنث. ألا ترى فيها تاء التأنيث وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله تعالى عز وجل، لا عن نفسه سبحانه، وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى إلى قول النابغة:
يجلهم ذات الإله ودينهم
فقد بان غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه"اهـ كلام السهيلي.
وقال الحافظ ابن القيم معلقاً على هذا الكلام ومستحسناً: "وهذا من كلامه من المرقصات فإنه أحسن فيه ما شاء".
وأصل هذه اللفظة هو تأنيث "ذو" بمعنى صاحب، فذات كذا صاحبة كذا في الأصل. ولهذا لا يقال ذات الشيء إلا لما له صفات ونعوت تضاف إليه فكأنه يقول: صاحبة هذه الصفات والنعوت، ولهذا أنكر جماعة من النحاة منهم ابن "هان" وغيره على الأصوليين قولهم "الذات"، وقالوا: لا مدخل للألف واللام هنا كما لا يقال "الذو" في "ذو" وهذا إنكار صحيح، والاعتذار عنهم أن لفظة الذات في اصطلاحهم قد صارت عبارة عن نفس الشيء وحقيقته وعينه، فلما استعملوها استعمال النفس والحقيقة عرفوها باللام وجردوها، ومن هنا غلطهم السهيلي. فإن الاستعمال، والتجريد أمر اصطلاحي لا لغوي، فإن العرب لا تكاد تقول رأيت الشيء لعينه ونفسه، وإنما يقولون ذلك لما هو منسوب ومن جهته. وهذا كجنب الشيء. إذا قالوا: هذا في جنب الله لا يريدون إلا فيما ينسب إليه من سبيله ومرضاته وطاعته لا يريدون غير هذا البتة. فلما اصطلح المتكلمون على إطلاق الذات على النفس والحقيقة، ظن من ظن أن هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث كذبات في ذات الله" وقول خبيب رضي الله عنه: "وذلك في ذات الإله"، فغلط واستحق التغليط، بل الذات هنا كالجنب في قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} سورة الزمر آية: 56.، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال هاهنا: فرطت في نفس الله وحقيقته. ويحسن أن يقال: فرطت في ذات الله كما يقال: فعل كذا في ذات الله، وقتل في ذات الله، وصبر في ذات الله، فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر.اهـ
انظر : "الصفات الإلهية" للعلامة محمد الجامي (ص : 37 ـ 49)
[7] ـ "درء تعارض العقل والنقل"(1/172).
[8] ـ "مجموع الفتاوى" (3/41)
[9] ـ أخرجه مسلم ( 182 )
[10] ـ أخرجه البخاري (7439).
[11] ـ "نقض التأسيس"(ص : 455)
[12] ـ أخرجه أحمد 3484 ،والترمذي (3285)، والدارمي (2149)، والطبراني في "الأوسط"( 342)، وأبو يعلى (2608)، وصححه الألباني في "الصحيحة" ( 3169 )
[13] ـ "نقض التَّأْسيس" 3/396.
[14] ـ "نقض التَّأْسيس" (6/525)
[15] ـ "تأويل مختلف الحديث" (ص: 221(
[16] ـ التعليق المختصر على القصيدة النونية لابن القيم: تعليق الشيخ العلامة صالح الفوزان - المجلد الأول ص264
[17] ـ "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (1/ 62)
[18] ـ من شرح عقيدة الإمام الطحاوي والمسمى بـ "إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل" للشيخ العلامة صالح آل الشيخ
[19] ـ أخرجه مسلم (537) ، وأبو داود(930) -واللفظ له-،وغيرهما
[20] ـ "التمهيد" (22/80)
[21] ـ "الاستذكار" (23/167)
[22] ـ "مختصر العلو"(ص:81)
[23] ـ "الردّ على الجهميّة "(ص:175)
[24] ـ "مجموع الفتاوى"(4/62)
[25] ـ "مجموع الفتاوى "(1/45)
[26] ـ "اجتماع الجيوش الإسلامية"(1/157)
[27] ـ انظر:" تذكرة المؤتسي شرح عقـيدة الحافـظ عبـد الغني المقـدسي "(ص : 89)
المزيد من المعلومات
تحذير أولي الألباب من مخالفات محمد راتب النابلسيّ للسّنة والكتاب –الحلقة الثالثة-

تحذير أولي الألباب من مخالفات محمد راتب النابلسيّ للسّنة والكتاب –الحلقة الثالثة-

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :فهذه الحلقة الثالثة مكمّلة وتابعة للحلقة التي قبلها في بيان أن أحاديث الآحاد التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم يحتج بها في باب الاعتقاد والأخبار الغيبية، وهكذا في باب الأحكام الشرعية ، بخلاف ما قرّره أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وهكذا النابلسي في أنها لا تقبل في باب الاعتقاد ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وفجورا.
وسنبيّن في هذا المقال أن النابلسي -فيما قرّره- مخالف لكتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومخالف لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومخالف لما أجمع عليه علماء الإسلام ، في قبولهم لأحاديث الأحاد التي صحّت عن النبي الكريم ،عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أولا :
الأدلة من كتاب الله تعالى على وجوب الأخذ بخبر الواحد :دلت أدلة كثيرة في كتاب الله عز وجل توجب الأخذ بخبر الواحد والعمل به ، من ذلك:
قوله تعالى : { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } [ آل عمران:32]،
قال الإمام أحمد رحمه الله : كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7] ، فلم يشترطوا إلا صحة الخبر ، ولم يفرقوا بين خبر الواحد والخبر المتواتر.
قال ابن القيم رحمه الله: أجمع المسلمون أن الرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وهو الرجوع إلى سنته بعد مماته ، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته ، فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه[1].
ـ قال الله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } [التوبة: 122]
فهذه الآية تحثّ المؤمنين على التفقّه في دين الله تعالى ، ومن المعلوم أن الطائفة قد تطلق على الواحد فما فوق ، كما قال تعالى : إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ
وهذه الآية الكريمة دالة على قبول خبر الواحد العدل؛ لأن الطائفة تقع على الواحد فصاعدا.
قال ابن الأثير رحمه الله : الطائفة: الجماعة من الناس، وتقع على الواحد.
ويدل على ذلك قول الله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ... الآية.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الطائفة: الرجل فما فوقه.
وقال مجاهد وعكرمة : الطائفة: الرجل الواحد إلى الألف .
وقال إبراهيم النخعي : أقله رجل واحد فما فوقه.
وقد بوب الإمام البخاري بابا فقال" : باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق" وقول الله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } [التوبة: 122]
وساق رحمه الله في الباب اثنين وعشرين حديثاً مستدلاً بها على قبول خبر الواحد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ـ" شارحاً هذه الترجمة : "المراد بالإجازة: جواز العمل به أي بخبر الآحاد، والقول بأنه حجة، وقصد الترجمة الرد به على من يقول إن خبر الواحد لا يحتج به إلا إذا كان رواه أكثر من شخص حتى يصير كالشهادة"[2]
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله : لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلاً أو فاسقاً ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كان فاسقاً فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته، فأوجب ذلك سقوط قبوله، فلم يبق إلاّ العدل، فكان هو المأمور بقبول نذارته، وقد حذر الله من مخالفة نذارة الطائفة، والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء، ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلماً ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوماً إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لزاماً لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة...[3]"
وقال السرخسي رحمه الله : لو لم يكن خبر الواحد حجة لوجوب العمل لما وجب الإنذار بما سمع... والأمر بالحذر لا يكون إلا بعد توجه الحجة، فدل أن خبر الواحد موجب للعمل.[4] 
ـ قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } " [سورة الحجرات، آية: 6]
فهذه الآية الكريمة من أصرح مايكون في وجوب قبول خبر الثقة ، وأنه لا يحتاج إلى التثبت لعدم دخوله في الفاسق ، ولو كان خبره لا يفيد العلم اليقيني الذي يوجب العمل لأمرنا ربنا تبارك وتعالى بالتثبت مطلقا حتى يحصل العلم .
قال ابن القيم رحمه الله : وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد وأنه لا يحتاج إلى التثبت ، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمره بالتثبت حتى يحصل العلم ، ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا ، وأمر بكذا ، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة ، وفي صحيح البخاري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع وكثيرة من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه من صحابي غيره ، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نسب إليه من قول أو فعل ، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم [5] .
ـ قال الله تعالى: { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا } (الأحزاب : 32-34).
قال القرطبي رحمه الله : أمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام ويسمعن من أقواله، حتى يبلغن ذلك إلى الناس؛ فيعملوا ويقتدوا. وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين.
ثانيا
الأدلة من السنة :عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه ، فرب مبلغ أحفظ له من سامع.
فهذا الحديث عام يتناول كل الأحكام الشرعية والأحكام الاعتقادية ، في تبليغ دين الله تعالى.
قال الشافعي رحمه الله : فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمره يؤديها ، والأمور واحدة ، دل على أنه لا يؤمر أن يؤدي عنها إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه ، لأنه إنما يؤدي عنه حلال يؤتى ، وحرام يجتنب وحد يقام ، ومال يؤخذ ويعطى ، ونصيحة في دين ودنيا .[6]
"وما اشتهر واستفاض بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفذ آحاد الصحابة إلى النواحي والقبائل والبلاد
بالدعاء إلى الإسلام ، وتبليغ الأخبار والأحكام ، وفصل الخصومات ، وقبض الزكوات ، ونحو ذلك ، ولو لم يكن خبر هؤلاء الآحاد مما تقوم به الحجة ، ويحصل به البلاغ ، ويجب به العمل ، لم يكن في بعثهم فائدة ، ولما أمضى النبي صلى الله عليه وسلم أحكامهم وأخبارهم ولما نفذ أمورا بمقتضى كلامهم .
ومما حصل من ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث أبا بكر أميرا على الحاج[7] 
وبعث عليا قاضيا إلى اليمن[8] . 
وبعث معاذا إلى اليمن داعيا للإسلام وجابيا للصدقات. [9] 
وبعث مصعب بن عمير إلى المدينة.[10] 
وأمر مناديا بتحريم الخمر .[11] ، 
وتحريم صيام أيام منى [12]، وغير ذلك [13].
ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف[14] أنه قال : "واغد يا أنيس- لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ". فاعترفت فرجمها .
وقد اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم خبره في اعترافها ، مع ما فيه من إقامة حد ، وقتل نفس مسلمة.ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن عمر ، قال : " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة "[15] .
قال ابن القيم رحمه الله : " إن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره ، وتركوا الجهة التي كانوا عليها ، واستداروا إلى القبلة ، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى ، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد علم وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترن بقرينة ، وكثير منهم يقول : لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها ، وهذا في غاية المكابرة ، ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرن بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها [16].
وقد عمل أبو بكر رضي الله عنه بخبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة.
وعمل عمر رضي الله عنه بخبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في أخذ الجزية من المجوس [17].
وعمل عثمان رضي الله عنه بخبر فريعة بنت مالك[18] في سكنى المتوفى عنها زوجها.
ورجع جماعة من الصحابة في إراقة الخمر إلى خبر الواحد .
كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابا من فضيخ [19]- وهو التمر - فجاءهم آت فقال أن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها قال أنس : فقمت إلى مهراس : لنا فضربتها بأسفلها حتى انكسرت.
فهذه الأخبار والوقائع وغيرها مما لم أذكره تبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتفون بخبر الواحد في أمور دينهم سواء ما كان منها اعتقادية أو عملية .وعلى هذا فالقول بأن أحاديث الآحاد لا تثبت بها عقيدة قول مبتدع محدث لا أصل له في الدين ولم يقل به واحد من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم ولم ينقل عن أحد منهم بل ولا خطر لهم على بال ولو وجد دليل قطعي يدل على أن الآحاد لا تثبت بها عقيدة لعلمت الصحابة وصرحوا به ، وكذلك من بعدهم من السلف الصالح ثم إن هذا القول المبتدع يتضمن عقيدة تستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم . فالذين لا يأخذون بخبر الواحد في العقيدة يلزمهم أن يردوا كثيرا من العقائد التي ثبتت بأحاديث الآحاد"[20].
ثالثا :
إجماع السلف على وجوب قبول خبر الواحد في العقائد والأحكام:حكى القاضي أبو يعلى إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد[21]
قال الشافعي رحمه الله : لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد[22] .
وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى : أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار -فيما علمت- على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع ، على هذا جميع الفقهاء ، في كل عصر ، من لدن الصحابة إلى يومنا هذا. [23]
وقال رحمه الله " ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه ، إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله ، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أجمعت عليه الأمة ، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه.[24] .
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله : وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعترض عليه فثبت أن دين جميعهم وجوبه ، إذا لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه والله أعلم.[25]
وجاء في "شرح الكوكب المنير" : " يعمل بآحاد الأحاديث في أصول الديانات ، وحكى ذلك ابن عبد البر إجماعا "[26] .
وقال أبو المظفر السمعاني رحمه الله : إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورواه الثقات والأئمة ، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلقته الأئمة بالقبول ، فإنه يوجب العلم فيما سبيل العلم ، هذا قول عامة أهل الحديث ، والمتقنين من القائلين على السنة ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات ".[27].
وقال رحمه الله : وأئمة أهل السنة والحديث - من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - يثبتون الصفات الخبرية ، لكن منهم من يقول : لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة ، وما لم يقم دليل قاطع على إثباته ونفيه ، كما يقوله ابن عقيل وغيره أحيانا ، ومنهم من يقول : بل نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقا ، ومنهم من يقول : يعطى كل دليل حقه ، فما كان قاطعا في الإثبات قطعنا بموجبه ، وما كان راجحا - لا قاطعا - قلنا بموجبه ، فلا نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع ، وإذا قام دليل يرجح أحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين ، وهذا
أصح الطرق
[28].
قال ابن القيم رحمه الله : إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين ، فإن الظن الغالب حاصل منها ، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها ، كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها . . . ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعيهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته . . . .. .[29]
ويقول العلامة صديق حسن خان - رحمه الله - : والضرب الآخر من السنة خبر الآحاد ، ورواية الثقات الأثبات بالسند المتصل والصحيح والحسن ، فهذا يوجب العمل عند جماعة من علماء الأمة وسلفها الذين هم القدوة في الدين والحجة والأسوة في الشرع المبين ومنهم من قال يوجب العلم والعمل جميعا وهو الحق وعلى درج سلف الأمة وأئمتها ".
فأهل السنة والجماعة كما يرون الأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة في الأحكام الفقهية فإنهم يرون الأخذ بها كذلك في العقائد ، لأنها تفيد العلم ، وعلى فرض أنها لم تفد العلم القاطع فهي تفيد - على الأقل - الظن الغالب وما كان كذلك فإنه يؤخذ به في أحكام الشريعة .ويقول ابن أبي العز رحمه الله : " وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملا به وتصديقا له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة وهو إحدى قسمي المتواتر ، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع " [30].
ومما سبق إيراده يتبيّن لنا أن القول بعدم حجيّة قبول أحاديث الآحاد في باب الاعتقاد ليس عليها أثارة من علم ، وليس عليها عمل الصحابة رضي الله عنهم ،وليس عليها عمل السلف الصالح ، وإنما منشؤها من علم الكلام ، ومن عقائد باطلة أحدثها أعداء السنة من أرباب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة من كان على شاكلتهم لتتوصلوا لهدم السنة وتشويهها والنيل منها ومن أهلها.
وهذا وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه : عبد الحميد الهضابي.06 / 06 / 1438
مكة المكرمة
الحواشي :[1] ـ مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (2/ 353).
[2] ـ "فتح الباري" (13/233).
[3] ـ الإحكام في أصول الأحكام (1/100)
[4] ـ أصول السرخسي(1/324)
[5] ـ مختصر الصواعق المرسلة (2/ 394، 395).
[6] ـ الرسالة للشافعي ص (175).
[7] ـ أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي (5/ 115).
[8] ـ أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي (5/ 110).
[9] ـ أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة (2/ 136).
[10] ـ أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار (4/ 263).
[11]ـ أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأشربة (6/ 241 - 242) وكتاب أخبار الآحاد (8/ 134).
[12] ـ أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام (2/ 800).
[13] ـ أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام (2/ 800).
[14] ـ العسيف: الأجير. النهاية (3/ 237).
[15] ـ أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد (8/ 133، 134)، ومسلم في كتاب المساجد (1/ 375)
[16] ـ مختصر الصواعق المرسلة (2/ 394).
[17] ـ أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجزية والموادعة، (4/ 62).
[18] ـ أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أخبار الآحاد 8/ 134
[19] ـ الفضيخ: شراب يتخذ من البسر المفضوخ، أي المشدوخ، النهاية لابن الأثير (3/ 453).
[20] ـ مابين المعكوفتين نقته من "مجلة البحوث الإسلامية"(68/ 152 : 257)، بتصرف يسير.
[21] ـ انظر العدة (3/ 865).
[22] ـ الرسالة (ص: 197).
[23] ـ التمهيد لابن عبد البر (1/ 2).
[24] ـ جامع بيان العلم وفضله (2/ 96).
[25] الكفاية في علم الرواية (ص: 31).
[26]ـ شرح الكوكب المنير (2/ 352)، وانظر: لوامع الأنوار البهية (1/ 19).
[27] ـ المسودة (ص: 248).
[28] ـ انظر: درء التعارض (3/ 383، 384).
[29] ـ مختصر الصواعق (2/ 412).
[30] ـ شرح العقيدة الطحاوية ص 398 - 400


المزيد من المعلومات